Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 54, Ayat: 49-55)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ } أي : بتقدير سابق في اللوح قبل وقوعه ، قد علمنا حالَه وزمانه قبل ظهوره ، أو : خلقناه كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، و " كل " : منصوب بفعل يُفسره الظاهر . وقرئ بالرفع شاذّاً ، والنصب ألأولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون " خلقنا " صفة لشيء ، ويكون الخبر مقدراً ، أي : إنا كل شيء مخلوق لنا حاصل بقدر ، فيكون حجة للمعتزلة ، باعتبار المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله . فلم يسبق لها قدر ، تعالى الله عن قولهم ، المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله . فلم سبق لها قدر ، تعالى الله عن قولهم ، ويجوز أن يكون الخبر : " خلقناه " ، فلا حجة فيه ، ولا يجوز في النصب أن يكون " خلقنا " صفة لشيء لأنه يفسر الناصب ، والصفة لا تعمل في الموصوف ، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً . قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخاصمونه في القدر ، فنزلت الآية ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية ، أي : على طريق الإخبار بالغيب . { وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ } أي : كلمة واحدة ، سريعة التكوين ، وهو قوله تعالى : { كن } أي : وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلاّ أن نقول له : كن ، فيكون ، أو : إلاّ فِعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معالجة ، { كلمح بالبصر } في السرعة ، أي : على قد ما يلمح أحد ببصره ، وقيل : المراد سرعة القيامة ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [ النحل : 77 ] . { ولقد أهلكنا أشياعكم } أي : أشباهكم في الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم ، { فهل من مُدَّكِر } من متعظ بذلك { وكلُّ شيءٍ فعلوه } من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل { في الزُبرِ } في ديوان الحفظة ، { وكل صغيرٍ وكبيرٍ } مِن الأعمال ، ومِن كل ما هو كائن { مُسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح بتفاصيله . ولمَّا بيَّن سوء حال الكفرة بقوله : { إن المجرمين … } الخ ، بيَّن حُسن حال المؤمنين ، جمعاً بين الترهيب والترغيب فقال : { إِنَّ المتقين } أي : الكفر والمعاصي { في جناتٍ } عظيمة { ونَهَرٍ } أي : أنهار كذلك ، والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس ، مراعاة للفواصل ، وقرئ : " ونُهُر " جمع " نَهَر " ، كأَسَد وأُسُد . { في مقعد صدقٍ } في مكان مرضيّ ، وقرئ " فيمقاعد صدق " ، { عند مليكٍ مقتدرٍ } أي : مقربين عند مليك قادر لا يُقادَر قدر ملكه وسلطانه ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته ، سبحانه ، ما أعظم شأنه . والعندية : عندية منزلة وكرامة وزلفى ، لا مسافة ولا محاسّة . الإشارة : هذه الآية وأشباهها هي التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار ، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار لأنّ العاقل إذا علمَ عِلم يقين أن شؤونه وأحواله ، وكل ما ينزل به ، قد عمّه القدر ، لا يتقدّم شيء عن وقته ولا يتأخر ، فوَّض أمره إلى الله ، واستسلم لأحكام مولاه ، وتلقى ما ينزل به من النوازل بالرضا والقبول ، خيراً كان أو شرّاً ، كما قال الشاعر : @ إِذا كانتِ الأَقْدارُ مِن مَالكِ المُلْكِ فَسِيَّان عِندي مَا يَسرُّ وما يُبكي @@ وقال آخر : @ تَسَلَّ الْهُمومِ تَسل فَما الدُّنيا سِوى ثوبٍ يُعارُ وسَلِّم للمُهَيْمنِ في قَضَاهُ ولاَ تَخْتَرْ فلَيْسَ لَكَ اخْتِيارُ فَما تَدرِي إِذا ما الليْلُ وَلَّى بِأَيِّ غَريبةٍ يَاتِي النَّهار @@ وقوله تعالى : { وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ … } الخ ، هذا في عالمَ الأمر ، ويُسمى عالم القدرة ، وأما في عالم الخلق ، ويسمى عالَم الحكمة ، فجُلّه بالتدريج والترتيب ، ستراً لأسرار الربوبية ، وصوناً لسر القدرة الإلهية ، ليبقى الإيمان بالغيب ، فتظهر مزية المؤمن ؟ ويُقال لأهل العناد المُتجبرة : ولقد أهلكنا أشياعكم إما بالهلاك الحسي ، أو المعنوي ، كالطرد والبُعد ، فهل من متعظٍ ، يرجع عن عناده ؟ وكل شيء فعلوه في ديوان صحائفهم ، وكل صغير وكبير من أعمال العباد مسطورة في العلم القديم . إنَّ المتقين ما سوى الله ، في جنات المعارف ، وأنهار العلوم والحِكَم ، في مقعد صدق ، هو حضرة القدس ، ومحل الأنس ، عند مليك مقتدر . قال الورتجبي : مقامات العندية جنانها زفارف الأنس ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم الله في بساط الزلفة والمداناة ، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها بالتستُّر والحجاب لذلك سماه " مقعد صدق " أي : محل كرامة دائمة ، ومزية قائمة ، ومواصلة سرمدية ، والله مقدّر قادر . انظر تمام كلامه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .