Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 1-6)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر استيفاء لهذه المادة ، فقال هنا : { سَبَّحَ } وفي الجمعة : { يُسَبِّحُ } [ الجمعة : 1 ] و { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] و { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى } [ الإسراء : 1 ] . وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة ، وبنفسه أخرى في قوله : { وَسَبِّحُوهُ } [ الأحزاب : 42 ] ، وأصله : التعدي بنفسه لأنّ معنى سبَّحته : بعّدته من السوء ، من : سَبَح : إذا ذهب وبَعُد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بـ " سبَّح لله " : اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً . قاله النسفي . يقول الحق جلّ جلاله : { سَبَّح لله } أي : نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله ، اعتقاداً ، أو قولاً وعملاً ، مَن استقر { في السماوات والأرض } مِن الملائكة والجن والإنس والجمادات ، بلسان الحال والمقال ، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم ، الواجب الوجود ، المتصف بالكمال ، المنزَّه عن النقائص ، وهو المراد بقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] قيل : إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع . هـ . { وهو العزيزُ } المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً ، { الحكيمُ } في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً . { وله مُلك السماواتِ والأرض } أي : التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات ، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات . قال الورتجبي : ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة ، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه ، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة ! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم ، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة ، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته ، وليس لقدرته نهاية ، ولا لإرادته منتهى . هـ . { يُحيي ويميت } استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك ، أي : هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء ، { وهو على كل شيءٍ } من الأشياء ، التي من جملتها الإحياء والإماتة { قدير } لا يعجزه شيء . { وهو الأولُ } القديم قبل كل شيء ، { والآخرُ } الذي يَبقى بعد فناء كل شيء ، { والظاهرُ } الذي ظهر بكل شيء ، { والباطنُ } الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء ، وقد جاء في الحديث : " اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء " قال الطيبي : فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي : الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب ، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه ، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه ، يُنجي ملتجئاً له . هـ . وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله . { وهو بكل شيءٍ عليم } لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ . { هو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام } من أيام الدنيا ، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل ، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار ، وتعليماً للتأني ، { ثم استوى } أي : استولى { على العرش } حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته ، { يعلم ما يَلِجُ في الأرض } ما يدخل فيها ، من البذر ، والقطر ، والكنوز ، والأمطار ، { وما يعرجُ فيها } من الملائكة والأموات والأعمال ، { وهو معكم أينما كنتم } بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية ، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم ، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم ، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه ، انظر الإشارة . { والله بما تعملون بصير } فيُجازي كلاًّ بعمله . { له مُلك السماوات والأرضِ } تكرير للتأكيد ، وتمهيد لقوله : { وإِلى الله تُرجع الأمورُ } أي : إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور ، { يُولج الليلَ في النهار } يُدخل الليل في النهار ، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار ، { ويُولج النهارَ في الليل } بأن ينقص من النهار ويزيد الليل ، { وهو عليم بذات الصدور } أي : بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر ، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم ، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم ، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها ، كَنّى بها عن القلوب . والله تعالى أعلم . الإشارة : التسبيح مأخوذ من السبْح ، وهو العوم ، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات ، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات ، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض ، شعروا أم لم يشعروا ، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات ، ممحوة بأحديتها . قال القشيري : تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية ، المتجلية في المظاهر الكلية ، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية ، المتجلية في المظاهر الجزئية . اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات ، وفلك الصفات أرض الذات ، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء ، وفلك الأسماء أرض الصفات ، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم ، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل ، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع ، كما ذكرنا . هـ . قلت : ومعنى قوله : " فلك الذات سماء الصفات " … الخ ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات ، المتجلّي بها ، وأنوار الصفات ، أرض لتلك الأسرار ، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء ، والأسماء أرض لسماء الصفات ، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر ، والأثر أرض لسماء الأسماء ، فكل مقام سماء لما تحته ، وأرض لما فوقه ، فالأثار أرض لسماء الأسماء ، والأسماء أرض للصفات ، والصفات أرض للذات ، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه على وجود صفاته ، وبوجود صفاته على وجود ذاته ، وهذا مقام الترقي ، ومقام التدلي بالعكس ، انظر الحِكَم ، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته ، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره . له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح ، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء ، وفلك أرضها ، على ما تقدّم . يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته ، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به ، أو يُحيي القلوب بالعلم به ، ويُميت النفوس بالفناء عنها ، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما . هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية ، وهو الظاهر ، فلا ظاهر معه ، وهو الباطن في حال ظهوره . أو : هو الظاهر بتجلياته ، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه ، أو : الظاهر بقدرته ، والباطن بحكمته ، أو : الظاهر بالتعريف ، والباطن باعتبار التكييف . والحاصل : أنه ظاهر في بطونه ، باطن في ظهوره ، ما ظهر به هو الذي بطن فيه ، وما بطن فيه هو الذي ظهر به ، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها إذ لا ظاهر معه ، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها ، ليكون باطناً فيها . وفي الحِكَم قال : " أظهر كل شيء بأنه الباطن ، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر " . ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق . قال القشيري : هو الأول في عين آخريته ، والآخر في عين أوليته ، والظاهر في عين باطنيته ، والباطن في عين ظاهريته ، من حيثية واحدة ، واعتبار واحد ، في آنٍ واحد لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة ، والحيثيات المتنافرة لإحاطته بالكل ، واستغنائه عن الكل . قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد ، ثم تلا هذه الآية : { هو الأول والآخر … } الخ ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة ، واعتبار واحد ، في آنٍ واحد . هـ . { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة ، وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة . انظر بقيته فيه . وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة . يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة ، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة ، من العلوم والأسرار ، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود ، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته ، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات ، فافهم ، وسلِّم إن لم تذق . حدثني شيخي ، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية ، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات ، على ما يليق به . وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي " ، فقال له : كيف تعتقد : { وهو معكم أين ما كنتم } ؟ فقال : بالذات ، فقال له : أشهد أنك من العارفين . هـ . قلت : فبحر الذات متصل ، لا يتصور فيه انفصال ، ولا يخلو منه مكان ولا زمان ، كان ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان . وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع ، ومقام إفراد القديم من الحدوث . فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن ، وسطوات عظمته ، حتى لا يبقى أثرها . ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل ، ونورُ الصفة قائم بالذات ، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته ، ثم يتجلّى من الفعل ، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده ، وهو ظاهر لكل شيء ، من كل شيء للعموم بالفعل ، وللخصوص بالاسم والنعت ، ولخصوص الخصوص بالصفة ، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات ، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع ، وإنما هو ذوق العشق ، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون . هـ . وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية إذ لا شيء معه ، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً ، ومنه لأثره فرقاً ، ولا فرق حقيقة ، فافهم ، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل ، وهم أهل الفناء ، كما قال ابن الفارض : @ فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي @@ ولمَّا ذكر تعالى تسبيحَ العالم له ، وما احتوى عليه من الملك والتصرُّف ، وما وصف به نفسه من الصفات العلى ، وختمها بالعلم بخفيات الصدور ، أمَرَ تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان فقال : { آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ } .