Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 64, Ayat: 14-18)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِن أزواجكم وأولادِكم عدواً لكم } يشغلونكم عن طاعة الله تعالى ، ويُخاصمونكم في أمور الدنيا ، أي : إنَّ من الأزواج أزواجاً يُعادين بعولتهنّ ويخاصمنَهم ، ومن الأولاد أولاداً يُعادون آباءهم ويعقّونهم ، { فاحذروهم } كونوا على حذر منهم إن شغلوكم عن الله ، فالضمير للعدو ، فإنه يُطلق على الجمع ، كقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي } [ الشعراء : 77 ] ، أو : للأزواج والأولاد جميعاً ، فالمأمور به على الأول : الحذر عن الكل ، وعلى الثاني : الحذر من البعض ، لأنّ منهم مَن ليس بعدو ، وإمّا الحذر عن عموم الفريقين ، لاشتمالهما على العدو . { وإِن تَعفوا } عن ذنوبهم القابلة للعفو ، بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا ، أو بأمور الدين لكن مع التوبة ، أو : تعفوا إذا اطّلعتم منهم على عداوة ، { وتصفحوا } تُعرضوا عن التوبيخ ، { وتغفروا } تستروا ذنوبهم ، { فإِنَّ الله غفور رحيم } يغفر لكم ذنوبكم ، ويعاملكم مثل ما عاملتم . رُوي أنّ ناساً من أهل مكة أرادوا الهجرة ، فتعلّق بهم نساؤهم وأولادهم ، وقالوا : تنطلقون وتُضيعوننا ، فرقُّوا لهم ، ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ، ورأوا الذين سبقوهم قد فَقِهُوا في الدين ، وحازوا رئاسةَ التقدُّم ، أرادوا أن يُعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فرغّبهم في العفو . { إِنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ } بلاءٌ ومحنةٌ ، يوقعون في الإثم والعقوبة ، أو : امتحان واختبار ، يختبر بهما عبادَه ، هل يصدونهم عن الخير أم لا ، فيعرف القويّ في دينه من الضعيف . قال الحسن : أدخل " مِن " للتبعيض في الأزواج والأولاد لأنَّ كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر " مِن " في فتنة الأموال والأولاد لأنها لا تخلو من فتنة واشتغال قلب بها . كان لابن مسعود بَنون كالبُدور ، فقيل له وهم بين يديه : أيسرُّونك ؟ فقال : لا ، إنما يسرُّني لو نفضت يدي من التراب عند دفنهم ، فنفوز بأجورهم ، قيل له : إنَّ لك الأجر في تربيتهم ، فقال : كل ما يشغل عن الله مشؤوم . هـ . من اللباب . وعن ابن مسعود : لا يقل أحدكم : اللهم اعصمني من الفتنة إذ لا يخلو منها أحد ، ولكن ليقل : اللهم إنني أعوذ بك من مضلاَّت الفتن . قال أبو بريدة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فجاءه الحسن والحسين ، عليهما قميصان أحمران ، يجرانهما ، يعثران ، ويقومان ، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر ، حتى أخذهما ، ثم قرأ : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } … الآية ، ثم قال " إني رأيت هذين فلم أصبر " ثم أخذ في خطبته " . { واللهُ عنده أجرٌ عظيم } لمَن آثر محبةَ الله وطاعتَه على محبة الأموال والأولاد ، والسعي في تدبير مصالحهم ، وليس في الآية ترهيب من مخالطة الأزواج والأولاد ، إنما المراد النهي عن الاشتغال بهم عن ذكر الله وطاعته ، فإذا تيسّر ذلك معهم فالمخالطة أولى ، فَعَن أنس رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله الجلوس مع العيال أحب إليك أم في المسجد ؟ قال : " جلوس ساعة مع العيال أحب إليَّ من الاعتكاف في مسجدي هذا ، ودرهم تُنفقه على العيال أفضل من أن تنفقه في سبيل الله " انظر السمرقندي . { فاتقوا اللهَ ما استطعتم } أي : ابذلوا جهدَكم وطاقتكم في تقواه ، قال ابن عطية : تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] أو : مُبيّنة لها ، والمعنى : اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم ، وهذا هو الصحيح . هـ . { واسمَعُوا } ما تُوعظون به ، { وأطيعوا } فيما تُؤمرون به { وأَنفِقوا } مما رزقناكم في الوجوه التي أُمرتم ، فالإنفاق فيها خالصاً لوجهه { خيراً لأنفسِكم } أي : وائتوا خيراً لأنفسكم { ومَن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون } الفائزون بكل خير . { إِن تُقرضوا اللهَ } بصرف أموالكم إلى المصارف التي عيّنها { قرضاً حسناً } مقروناً بالإخلاص { يُضاعِفْهُ لكم } بالواحدة عشراً إلى سبعمائة أو أكثر ، { ويغفرْ لكم } ببركة الإنفاق ما فرط منكم ، { واللهُ شكورٌ } يُعطي الجزيل في مقابلة القليل ، { حليمٌ } لا يُعاجِل بالعقوبة ، { عالمُ الغيب والشهادة } لا تخفى عليه خافية ، { العزيزُ الحكيمُ } مبالغ في القدرة والحكمة . والله تعالى أعلم . الإشارة : كل ما يشغلك عن السير إلى الحضرة ، أو عن الترقِّي في معاريج الوصلة ، فهو عدو لك ، فاحذره ، بالفرار من موافقته والوقوف معه ، فكن إبراهيميًّا ، حيث رمَى أهلَه وولَده في وادٍ غير ذي زرع ، وتركهم في كنف الله وحِفْظِه ، فانظر كيف حَفِظَهم غايةَ الحفظ ، وتولاهم غاية التولي ، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم من كل جانب ، وانصبّت عليهم الأرزاق من كل ناحية ، فهذه عادته تعالى مع أهل التوكُّل والانقطاع إليه . ومِن الأزواج والأولاد مَن يزيد بالرجل ويُعينه على ربه ، فهؤلاء ليسوا بأعداء . قال سهل : مَن دعاك مِن أهلك وولدك للميل للدنيا فهو عدو ، ومَن واخاك على القناعة والتوكُّل فليس بعدو . هـ . قال القشيري : إنَّ من أزواجكم : نفوسكم الأمَارة ، وأولادكم : صفاتها ومُناها وأخلاقها الشهوانية ، عدوًّا لكم ، يمنعكم عن الهجرة إلى مدينة القلب ، الذي هو بيت الرب ، فاحذروا متابعتَهم بالكلية ، وإن تعفوا عن هفواتكم الواقعة في بعض الأوقات ، لكونهم مطية لكم ، وتصفحوا عن التوبيخ ، وتغفروا : تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع قلوبكم ، فإنّ اللهَ غفور سائر لكم بستر لطفه ، رحيم بإفاضة رحمته عليكم . هـ . ببعض المعنى . إنما أموالكم وأولادكم فتنة اختبار من الحق ، ليعلم مَن يقف معها ، أو ينفذ عنها ، فأهل العناية لم يشغلهم عن الله شيء ، فحين توجّهوا إليه كفاهم أمْرَهم ، أو : بالغيبة عنها بالخمرة القوية . قال القشيري : أموالكم : أعمالكم المشوبة ، وأولادكم : أخلاقكم المكدرة ، فكدورة الطبع فتنة توجب افتتانكم بالإعراض عن الحق ، والإقبال على الدنيا ، وحب الجاه عند الناس ، والتفاتهم إليكم بحسن الاعتقاد ، والله عنده أجر عظيم بالفناء عن الكل والبقاء بالحق . هـ . { فاتقوا الله ما استطعتم } أي : غِيبوا عما سوى الله طاقة جهدكم ، وتقدّم أنَّ قوله تعالى : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] خطاب لأهل التجريد ، وهذا خطاب لأهل الأسباب ، والله تعالى أعلم . وقال ابن عطاء : الاستطاعة على الظواهر والأعمال ، وحق تقاته على القلوب والأحوال . هـ . أي : اتقوا الله حق تقاته بتوجيه القلوب إليه بلا التفات ، واتقوا الله ما استطعتم بعمل الجوارح قدر الطاقات . قال القشيري : ما أنتم في الجملة مستطيعين ، ويتوجه إليكم التكليف ، فاتقوا الله ، والتقوى عن شهود التقوى ، بعد ألاّ يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى . هـ . واسمعوا منا بلا واسطة ، وأطيعوا فيما نأمركم به مما يُقرب إلينا ، وننهاكم عنه مما يُبعد عنا . قال القشيري : أطيعوا بالنفس لأحكام الشريعة ، وبالقلب لآداب الطريقة ، وبالروح بطلوع الحقيقة . هـ . وأنفِقوا من أموالكم وعلومكم وأسراركم ، على الطالبين والسالكين والواصلين ، يكن خيراً لأنفسكم ، لأنّ الناس نفس واحدة ، فإنفاقك على غيرك إنفاق على نفسك ، لانتفاء الغيرية في الأحدية . ومن يُوق شُحَّ نفسه بإنفاقها في مرضاة الله ، بأن يُقدمها للمَتالف والمتاعب في طلب الوصول ، فأولئك هم المفلحون الظافرون بشهود الحق . قال القشيري : ومَن يُوق شُحَّ نفسه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار ، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات ، فأولئك هم المفلحون . هـ . وعن بعضهم : مَن أنفق بكُرهٍ فهو شح ، ومَن أَنفق بطوعٍ فهو الفرض ، ومَن عُوفي من بلاء الجمع والمنع ، والرغبة والحرص ، فقد دخل في ميدان الفلاح . هـ . إن تُقرضوا الله بإعطاء وجودكم قرضاً حسناً ، من غير اعتبار الغرض والعوض ، بالفناء عن شهود القَرْض والحس ، يُضاعفه لكم بالوجود الحق ، المشتمل على جميع الموجودات الإضافية ، ويغفر لكم : يستر عنكم مساوئكم وحسّ وجودكم قبل فنائكم في الله وبقائكم به . والله شكور يقبل مَن توجه إليه بلا شيء ، حليم يُغيّب العبد عن شهود مساوئه ، بإغراقه في إحسانه . عالم الغيب : بواطن الأرواح ، والشهادة : شهادة ظواهر الأشباح ، العزيز : المعزّ لأوليائه ومكل مَن انتسب إليه ، الحكيم في قسمه المراتب على حسب التوجُّه . وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .