Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 10-12)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " مثلاُ " : مفعول ثان لضرب ، أي : جعل ، و " امرأةَ " : مفعول أول ، أي : جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا . يقول الحق جلّ جلاله : { ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا } ، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن : إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى ، مشاكِلة لها في الغرابة ، أي : ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين ، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين ، { امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ } قيل : اسم الأولى : واهلة ، والثانية : راعلة ، { كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ } أي : كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن ، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والأخرة ، وحيازة سعادتهما ، { فخانتاهما } بإفشاء سرهما ، أو بالكفر والنفاق ، { فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً } أي : فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى ، { وقيل } لهما عند موتهما ، أو يومَ القيامة : { ادخلا النارَ مع الداخلين } أي : مع سائر الداخلين من الكفرة ، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء . قال القشيري : لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة . هـ . قال ابن عطية : وقول مَن قال : إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد . هـ . قلت : لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين ، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم ، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته ، وصيانة سِره ، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه ، وكل مَن نصحك فقد أحبّك ، وكل مَن أهملك فقد مقتك . { وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا } في أنهم ينفعهم إيمانهم ، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة ، حيث لم يميلوا عنه ، { امرأة فرعونَ } ، وهي أسية بنت مزاحم ، وهي عمة موسى عليه السلام ، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة ، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها ، وألقى عليها صخرةَ عظيمة ، فأبصرت بيتَها في الجنة ، من دُرة ، وانتزع اللهُ روحَها ، فلقيتها الصخرة بلا روح ، فلم تجد ألماً ، وقال سَلْمَان : كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة ، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب ، وكذا فليكن صوالح النساء ، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه . هـ . من الثعلبي . { إِذ قالتْ } : ظرف لمحذوف أي : ضرب مثلاً لحالها حين قالت : { رَبِّ ابْنِ لي عندكَ } أي : قريباً من رضوانك { بيتاً في الجنة } أو : في أعلى درجات المقربين ، رُوي : أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة . { ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ } أي : من نفسه الخبيثة وعمله السيىء { ونجني من القوم الظالمين } أي : من القبط التابعين له في الظلم قال الحسن وابن كيسان : نجاها الله أكرمَ نجاةٍ ، ورفعها إلى الجنة ، فهي فيها تأكل وتشرب . هـ . { ومريمَ ابنة عمرانَ } : عطف على " امرأة فرعون " أي : وضرب اللهُ مثلاً للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع كون قومها كفاراً ، { التي أحْصَنَتْ فَرْجَها } حفظته { فنفخنا في مِن روحنا } المخلوقة لنا ، أو : من روح خَلقتُه بلا واسطة ، { وصدَّقتْ بكلماتِ ربها } بصُحفه المنزلة ، أو : بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه ، { وكتابه } أي : جنس الكتاب الشامل للكل ، وقرأ البصري وحفص بالجمع ، أي : كُتبه الأربعة ، وقُرىء : " بكلمة الله وكتابه " أي : بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل ، { وكانت من القانِتين } أي : من عدة المواظبين على الطاعة ، والتذكير للتغليب ، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال ، حتى عُدت من جملتهم ، أو كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون ، أخي موسى عليهما السلام . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كَمُل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . قال النسفي : وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه ، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين ، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم . هـ . وفي الثعلبي : وقال ابن عباس وجماعة : قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره ، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً . هـ . الإشارة : قال القشيري : المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع ، أي : كانتا تحت القلب والروح ، فخانتاهما ، حيث غلبتا القلبَ والروحَ ، وجذبتاهما إليهما ، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية ، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية ، كحب الجاه والرئاسة والكرامة ، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً ، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية ، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن ، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى ، لم يضرهما صحبتهما ، فقالت النفس المطمئنة : ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل ، نفخ الحقُّ فيه من روحه ، فأحياه به ، وأشْهَده أنوار قدسه ، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته ، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم ، وكان من القانتين ، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية . قال الورتجبي : { فنفخنا فيه … } الآية ، أي : ظهر فيه نور الفعل ، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة ، فظهر في نور الصفة نور الذات ، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته ، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته ، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً . وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه . قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده ، ليحيي بذلك الروح ، ويحيى به ، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر ، فيعيش في الدنيا حميداً ، ويُبعث في الآخرة شهيداً ، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم ، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق ، وذلك قوله : { وصَدَّقت بكلمات ربها } ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية ، فسبق لها العناية ، وأبقاها في درجة العبودية ، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو ، ألآ ترى كيف قال : { وكانت من القانتين } أي : من المستقيمين في معرفتها بربها ، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها . هـ . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .