Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 143-143)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } الذي وقتنا له { وكلَّمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملائكة . وفيما رُوِي : أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة ، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . قاله البيضاوي . وقال الورتجبي : أي أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات . هـ . وقال ابن جزي : لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته ، فسألها ، كما قال الشاعر : @ وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ @@ { قال ربِّ أرني أنظر إليك } أي : أرني نفسك أنظر إليك ، بأن تكشف الحجب عني ، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة ، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة . قال البيضاوي : وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله ، ولذلك رده بقوله تعالى : { لن تراني } دون لن أُرِى ولن أريك ، ولن تنظر إليّ ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي ، لم توجد فيه بعدُ ، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : { أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } [ النَّساء : 153 ] خطأ ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم ، كما فعل بهم حين قالوا : { أجْعَل لَّنَآ إِلَهًا } [ الأعرَاف : 138 ] ، والاستدلال بالواجب على استحالتها أشد خطأ ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته أياه على أنه لا يراه أبدًا ، وألا يراه غيره أصلاً ، فضلاً عن أن يدل على استحالتها . ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية . هـ . وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه ، فإنه أطلق لسانه في أهل السنة عفا الله عنه ـ . والتحقيق : أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء وهي أنوار الصفات جائرة واقعة ـ ، وأما رؤية أسرار الذات وهي المعاني الأزلية ، التي هي كنه الربوبية فغير جائزة إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت ، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام ، فلذلك قال له : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه } عند تجلي هذه الأسرار له ، { فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل } أي : أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية ، { جعله دكًا } أي : مدكوكًا مفتتًا ، والدك والدق واحد ، وقرأ حمزة : " دكاء " بالمد ، أي : أرضًا مستوية ، ومنه : ناقة دكاء لا سنم لها . { وخرَّ موسى صَعِقًا } مغشيًا عليه من هول ما رأى ، { فلما أفاق قال } تعظيمًا لما رأى : { سبحانك تُبت إليك } من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن ، وقال بعضهم : تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله : { لن تراني } حتى نظر إلى الجبل ، { وأنا أولُ المؤمنين } أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات ، أو أول أهل زماني إيمانًا . الإشارة : رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين ، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص ، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان ، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء ، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها ، ثم الغيبة عن حسها ورسمها ، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل ، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات ، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده ، حتى يقول له : ها أنت وربك ، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني ، وهو حس الأكوان ، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني ، أو تقول : أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات ، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت ، كما في الحديث : " حِجَابُهُ النُّورُ ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ " . فالمراد بالنور نور الصفات ، وهو الأواني الحاملة للمعاني ، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شيء أدركه بصره . والواسطة عند المحققين هي عين عين الموسوط ، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية ، أو تقول : لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان ، فتغيب الأواني في ظهور المعاني ، فيقع العيان على فقد الأعيان ، " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان " ، " ما حجبك عن الحق وجود موجود معه ، إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه " . والحاصل : أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر ، لأن البصيرة تدرك المعاني ، والبصر يدرك الحسيات ، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر ، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة . قال بعض العارفين : هذه المزية العظمى وهي رؤية الحق تعالى في الدنيا على هذا الوجه : خاص بخواص الأمة المحمدية دون سائر الأمم وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء . وإلى ذلك أشار ابن الفارص في تائيته ، مترجمًا بلسان الحقيقة المحمدية ، حيث قال : @ ودونَكَ بحرًا خُضتُهُ ، وقَف الألي بساحِلِه ، صَونًا لمَوضِع حُرمتي ولا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ إشارةٌ لكَفَّ يدٍ صُدَّت له ، إذ تَصَّدِت وما نالَ شيئًا منُه غيري سوى فتىً على قَدَمي في القبض والبسطِ ما فتى @@ قال شارحه القاشاني : أراد بهذا البحر : الرؤية التي مُنع منها موسى عليه السلام ، وخص بها محمد عليه الصلاة والسلام وأفراد من أتباعه . ثم قال : ورد في الخبر : أنه لما أفاق موسى عليه السلام من صعقته قيل له : ليس ذلك لك ، ذلك ليتيم يأتي من بعدك ، ثم قال : سبحانك تبتُ إليك عما تعديتُ لما ليس لي ، وأنا أول المؤمنين بتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بهذا المقام . هـ . وقيل في قوله : { فلما تجلى ربُّه للجبل } أي : جبل العقل ، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان ، وخر موسى صعقًا ، أي : ذهب وجوده في وجود محبوبه ، وحصل له الزوال في مكان الفناء والسكر ، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال : { سبحانك تبتُ إليك } من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى ، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأواني ، لا يدرك إلا بعد الصعقة ، والله تعالى أعلم . ثم ذكر نزول التوراة ، فقال : { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ } .