Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 11-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله ، في مقالة الجن : { وأنَّا منا الصالحون } أي : الموصوفون بصلاح الحال ، في شأن أنفسهم مع ربهم ، وفي معاملتهم مع غيرهم ، { ومنا دونَ ذلك } أي : ومنا قوم دون ذلك ، وهم المقتصدون في الصلاح ، غير الكاملين فيه على الوجه المذكور ، لا في الإيمان والتقوى ، كما يتوهم ، فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : { كنا طرائِقَ قِدداً } أي : مذاهب متفرقة ، وأدياناً مختلفة ، وأما حالهم بعد استماعهم ، فسيحكي بقوله تعالى : { وأنا لَمَّا سمعنا الهدى … } الخ ، أي : كنا قبل هذا ذوي طرائق ، أي : مذاهب { قِدَداً } أي : متفرقة مختلفة ، جمع قِدّة ، من : قَدَّ إذا شقّ ، كقِطعة من قطع . قاله أبو السعود . وقال الثعلبي : { وأنَّا منا الصالحون } السبعة الذين استمعوا القرآن ، { ومنا دون ذلك } دون الصالحين ، { كنا طرائق قددا } أهواء مختلفة ، وفِرقاً شتى ، كأهواء الإنس ، قيل : وقوله : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } ، يعنون بعد استماع القرآن ، أي : منا بررة أتقياء ، ومنا دون البررة ، وهم مسلمون ، وقيل : معناه : مسلمون وغير مسلمين ، قال المسيب : كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى ، وقال السدي : { طرائق قددا } قال : في الجن مثلكم ، قدرية ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة . هـ . والحاصل : أن " دون " صفة لمحذوف ، وهي إمّا أن تكون بمعنى الأدون ، فيكون الجميع مسلمين ، لكنهم متفاوتون ، أو بمعنى " غير " فيكون المعنى : منا المسلمون ومنا غير المسلمين ، كنا مذاهب متفرقة نصارى ويهود ومجوس كالإنس ، والظاهر : أنه قبل استماع القرآن ، بدليل ما يأتي في قوله : { وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى … } الخ . { وأنَّا ظننا } أي : تيقَّنَّا { أن لن نُّعْجِزَ اللهَ } أي : أن الشأن لن نفوت الله ونسبقه ، و { في الأرض } : حال ، أي : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، { ولن نُّعجِزَه هَرَباً } : مصدر في موضع الحال ، هاربين منها إلى السماء ، أي : فلا مهرب منه تعالى إن طلبنا ، لا في أرضه ولا في سمائه . { وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى } القرآن { آمنا به } بالقرآن ، أو بالله تعالى ، { فمَن يؤمن بربه فلا يخافُ } أي : فهو لا يخاف { بَخْساً } نقصاً { ولا رَهَقَا } أي : ولا ترهقه ذلة ، كقوله : { وَلآ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلآ ذِلَّةُ } [ يونس : 26 ] ، وفيه دليل على أنَّ العمل ليس من الإيمان ، وأنَّ المؤمن لا يخلد في النار . { وأنَّا منا المسلمون } المؤمنون ، { ومنّا القاسِطون } الجائرون عن طريق الحق ، الذي هو الإيمان والطاعة ، وهم الكفرة { فمَن أسلم فأولئك تَحَروا رَشَداً } طلبوا هدى . والتحرّي : طلب الأحرى ، أي الأَولى ، وجمع الإشارة باعتبار معنى " مَن " ، { وأمَّا القاسطون } الحائدون عن الإسلام ، { فكانوا } في علم الله { لِجهنم حَطَباً } وقوداً ، وفيه دليل على أنَّ الجنِّي الكافر يُعذّب في النار وإن كان منها ، والله أعلم بكيفية عذابه ، وقد تقدّم أنّ المشهور أنهم يُثابون على طاعتهم بالجنة ، قال ابن عطية : في قوله تعالى : { فمَن أسلم . . } الخ ، الوجه فيه : أن تكون مخاطبة مِن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده ما بعده من الآيات . هـ . { وأن لو استقاموا } أي : القاسطون { على الطريقة } طريقة الإسلام { لأسْقيناهم } المطر { ماءً غَدَقاً } أي : كثيراً ، والمعنى : لوسّعنا عليهم الرزق . وذكر الماء الغَدَق لأنه سبب سعة الرزق ، { لِنفتنَهم فيه } لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خُوِّلوا منه . وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل : " لَوْ أنَّ عِبادِي أطاعوني لأسْقَيتُهم المطرَ باللَّيْل ، وأَطْلَعتُ عليهمُ الشمس بالنهار ، ولم أًسمِعهم صوت الرعد " ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَوْ أّنَّ أّهْلَ ٱلْقُرَى ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] ، وقيل : المعنى : وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لأسقيناهم ماءً غدقاً ، استدراجاً ، { لِنفتنَهم فيه } فإذا لم يشكروا أهلكناهم ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَوْلآ أّن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةَ وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا … } [ الزخرف : 33 ] الخ . والأول أظهر ، بدليل قوله : { ومَن يُعرض عن ذكر ربه } القرآن أو التوحيد أو العبادة ، { نسلكه } ندخله أو يدخله الله { عذاباً صعداً } شاقًّا صعباً ، يعلو المعذّب ويغلبه ويصعد عليه ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تصَعَّدني شيءٌ ما تصعّدتني خِطبة النكاح ، أي : ما شقَّ عليّ . وهو مصدر وصف به ، مبالغة ، فعلى قول ابن عطية أنَّ قوله تعالى : { فمَن أسلم } من مخاطبة الله لنبيه عليه السلام ، فيكون قوله : { وأن لو استقاموا } من تتمة الخطاب ، فلا تقدير ، وإذا قلنا : هو من قول الجن ، فالتقدير : وأوحي إليَّ أن لو استقاموا … الخ . الإشارة : تقدّم أنَّ الجن فيهم الصالحون والعارفون ، إلاّ أنَّ معرفة الآدمي أكمل لاعتداله ، وأما دوائر الأولياء من الأقطاب ، والأوتاد ، والنقباء ، والنجباء ، وغير ذلك ، فلا تكون إلاّ من الإنس لشرفهم . قوله تعالى : { وأنا ظننا ألن نُعجز اللهَ في الأرض … } الخ ، أي : تيقَّنا ألاّ مهرب منه ، فرجعنا إليه اختباراً ، فنحن ممن انقاد إليه بملاطفة الإحسان ، لا بسلاسل الامتحان ، { وأنَّا لمّا سمعنا الهُدى آمنا } أي : أجبنا الداعي بلا تلَعْثم ولا تردد ، وكذا في كل داعٍ بعد الداعي الأكبر ، فيكون السابقون في كل زمان ، وهؤلاء سابِقو الجن ومقربوهم ، فمَن يؤمن بربه ، ويتوجه إليه ، فلا يخاف نقصاً ولا ذُلاًّ ، بل كمالاً وعِزًّا ، من أي فريق كان ، وأنّا منا المسلمون المنقادون لأحكامه تعالى ، التكليفية والتعريفية ، وهي الأحكام القهرية ، فمَن استسلم ورَضِي فقد تحرّى رشداً ، ومَن قنط وسخط كان لجهنم حطباً ، وأن لو استقاموا على الطريقة المرضية بالرضا والتسليم ، وترك الاختيار لأسقيناهم من خمرة الأزل ، ومن ماء الحياة ، ماءً غدقاً ، تحيا به قلوبهم وأرواحهم ، فيتنعّمون في شهود الذات الأقدس في الحياة وبعد الممات . قال القشيري : الاستقامة تقتضي إكمالَ النعمةِ وإكساب الراحة ، والإعراضُ عن الله يُجب تَنَقُّصَ النعمة ودوام العقوبة . هـ . وقوله : { لِنفتنهم } لنختبرهم ، مَن يعرف قدرها فيشكر ، أو لا يعرف قدرها فيُنكر ، فيُسلب من حيث لا يشعر . والله تعالى أعلم . ومن جملة ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } .