Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 1-7)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : قد أجمعوا على فتح أنه لأنه نائب فاعل " أوحى " ، و { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ } [ الجن : 16 ] و { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ } [ الجن : 18 ] للعطف على { أنه استمع } فـ " أن " مخففة ، و { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ } [ الجن : 28 ] لتعدّي " يعلم " إليها ، وكسر ما بعد فاء الجزاء ، وبعد القول ، نحو : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] و { قالوا إنّا سمعنا } لأنه مبتدأ محكي بعد القول . واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من { أنه تعالى جَدٌ ربنا } إلى : { وأنَّا منا المسلمون } ، ففتحها الشامي والكوفيّ [ غير ] أبي بكر عطفاً على { أنه استمع } ، أو على محلّ الجار والمجرور في { آمنا به } تقديره : صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا { وأنه كان يقول سفيهنا … } إلى آخره ، وكسرها غيرُهم عطفاً على { إنّا سمعنا } ، وهم يقفون على آخر الآيات . يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد لأمتك : { أُوحي إِليَّ أنه استمع } أي : الأمر والشأن استمع للقرأن { نفر من الجن } ، وهم جن نصيبين ، كما تقدّم في الأحقاف ، وكانوا متمسكين باليهودية . والنفر ما بين الثلاثة والعشرة . والجن عاقلة خفية ، يغلب عليهم الناري والهوائية ، وقيل : روح من الأرواح المجرّدة . وفيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم وباستماعهم ، ولم يقرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته ، فسمعوها ، فأخبره الله تعالى بذلك ، فهذه غير الحكاية التي حضر معهم ، ودعاهم ، وقرأ عليهم سورة الرحمن ، كما في حديث ابن مسعود . { فقالوا } أي : المستمِعون حين رجعوا إلى قومهم : { إِنَّا سمعنا قرآناً } كتاباً { عجباً } بديعاً ، مبايناً لكلام الناس في حُسن النظم ورقّة المعنى . والعجب : ما يكون خارجاً عن العادة ، وهو مصدر وصف به للمبالغة . { يهدي إِلى الرُّشْد } إلى الحق والصواب ، { فآمنّا به } أي : بذلك القرآن ، ولمَّا كان الإيمان به إيماناً بالله وتوحيده ، وبراءةً من الشرك ، قالوا : { ولن نُشْرِكَ بربنا أحداً } من خلقه ، حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد ، ويجوز أن يكون الضمير في " به " لله تعالى لأنَّ قوله : بربنا يُفسّره . { وأنه تعالى جَدُّ ربِّنا } أي : ارتفع أو تنَزّه عظمة ربنا ، أو سلطانه أو غناه ، يُقال : جَدّ فلان في عيني إذا عَظُم ومنه قول عمر : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في عيننا ، أي : عظم في عيوننا ، { ما اتخذَ صاحبةً } زوجة { ولا ولداً } كما يقول كفار الجن والإنس ، والمعنى : وصفوه بالاستغناء عن الصاحبة والولد لعظمته وسلطانه ، أو لغناه ، وقُرىء " جَدًّا " على التمييز ، أي : أنه تعالى ربنا جَداً ، وقُرىء بكسر الجيم أي : تنزّه صِدق ربوبيته ، وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وذلك أنهم لمَّا سمعوا القرآن ، واهتدوا للتوحيد والإيمان ، تنبّهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه . { وأنه كان يقول سفيهُنا } أي : جاهلنا من مردة الجن ، أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه ، { على الله شططاً } أي : قولاً ذا شطط أي : بُعدٍ وجورٍ ، وهو الكفر لبُعده عن الصواب ، من : شطت الدار : بَعُدت ، أو : قولاً مجاوزاً للحدّ ، بعيداً عن القصد ، أو هو شطط في نفسه لفرط بُعده عن الحق ، وهو نسبة الصاحبة والولد لله تعالى . والشطط : مجاوزة الحدِّ في الظلم وغيره . { وأنَّا ظننا أن لن تقول الإِنسُ والجنُّ على الله كذباً } أي : قولاً كذباً أو مكذوباً فيه ، أي : كان في ظننا أنَّ أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد ، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم . { وأنه كان رجالٌ من الإِنس يعوذون برجالٍ من الجن } ، كان الرجل من العرب إذا نزل بوادٍ قفرٍ وخافَ على نفسه ، يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم ، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سُدنا الإنس والجنّ ، وذلك قوله تعالى : { فزادوهم } زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم { رَهَقاً } : طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً ، أو : فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً : إثماً وغيًّا بأن أضلوهم ، حتى استعاذوا بهم . { وأنهم } أي : الجن { ظنوا كما ظننتم } يا أهل مكة { أن لن يبعثَ اللهُ أحداً } بعد الموت ، أي : إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة ، ثم بسماع القرآن اهتدوا ، وأقرُّوا بالبعث ، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا ؟ ! أو : ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس . وبالله التوفيق . الإشارة : كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول صلى الله عليه وسلم وتأخذ عنه ، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم ، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم ، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه ، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع ، وقالا له : إنا لنحضر مجلس شيخكما أي : مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ونسمع منه . هـ . ففيهم الأولياء والعلماء ، والقُراء ، وسائر الطرائق ، كما يأتي في قوله : { طرائق قِدداً } . وقال الورتجبي : خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن ، لهم أرواح ملكوتية ، وأجسام روحانية ، وهم إخواننا في المعرفة ، يُطيعون اللهَ ورسوله ، ويُحبون أولياءه ، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويسمعون القرآن ، ويفهمون معناه ، وبعضهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً ، وخضعوا له إذعاناً ، واستبشروا برَوح الله ، ورَوح قضائه استبشاراً . هـ . قلتُ : ومعرفة الآدمي أكمل لاعتدال بشريته وروحانيته ، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها . وقوله تعالى : { يهدي إلى الرُشد } ، قال الجنيد : يهدي إلى الوصول إلى الله ، وهو الرشد . هـ . وقال الورتجبي : يهدي إلى معدن الرشد ، وهو الذات القديم . هـ . وقوله تعالى : { وأنه تعالى جَدُّ ربنا … } الخ ، أي : تنزهت عظمة ربنا الأزلية ، عن اتخاذ الصاحبة والولد ، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة ، ستراً لأسرار القدرة ، فافهم . وقال الجنيد : ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً . هـ . والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى ، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله ، ولذلك قال الشاعر : @ مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً وكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ @@ وقال بعض العارفين : لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع ، فإنه لا شيء معه حتى أشهده . هـ . وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل ، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد . ثم ذكر امتناعهم من استراق السمع ، فقال : { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا } .