Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 83, Ayat: 1-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ويل للمطفيين } ، الويل : شديد الشر ، أو : العذاب الأليم ، أو : واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، وقيل : كلمة توبيخ وعذاب ، وهو مبتدأ ، سوّغ الابتداء به معنى الدعاء . والتطفيف : البخس في الكيل والوزن ، وأصله : من الشيء الطفيف ، وهو القليل الحقير ، رُوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة فوجدهم يُسيئون الكيل جدًّا ، فنزلت ، فأحْسَنوا الكيلَ ، وقيل : قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، وقيل : كان أهل المدينة تُجاراً ، يطففون ، وكانت بياعتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خَمْسٌ بخمس ، ما نَقَض قومٌ العهد إلاّ سلَّط الله عليهم عدوّهم ، ولا حَكَموا بغير ما أنزل الله إلاَّ فَشَى فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشى فيهم الموت ، ولا طَفّفوا الكيل إلاَّ مُنِعُوا النبات ، وأُخذوا بالسنين ، ولا مَنَعُوا الزكاة إلاَّ حبس اللهُ عنهم المطر " . ثم فسّر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل ، فقال : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفُون } أي : إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة ، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرّهم ، ويتحامل فيه عليهم أبدل " على " مكان " مِنْ " للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون " ، وتقدّم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص ، أي : يستوفون على الناس خاصة ، وقال الفراء : " مِنْ " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حقّ عليه ، فإذا قال : اكتلت عليه ، فكأنه قال : أخذت ما عليه ، وإذا قال : اكتلت منه فكأنه قال : استوفيت منه . هـ . { وإِذا كالوهم أو وزنوهم } أي : كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، { يُخْسِرون } ينقصون ، يقال : خَسر الميزان وأخسره : إذا نقصه . وجعلُ البارز تأكيداً للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل ، ولعل ذكر الكيل والوزن في صور الإخسار ، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكُّنهم منه عند الكيل لأنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخلاف الوزن ، ويحتمل أنّ المطففين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلاّ بالمكاييل لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرف ، كما تقدّم ، وهذا بعيد ، وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا ، لتمكّنهم من البخس في النوعين . { ألاَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } وهو يوم القيامة ، وهو استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجُّب من اجترائهم عليه . وأدخل همزة الاستفهام على ألاَ توبيخاً ، وليست " ألا " هذه للتنبيه ، و " أولئك " إشارة إلى المطففين ، ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحُكم الذي هو وصفهم ، فإنَّ الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه ، وأمّا الضمير فلا يتعرّض لوصفه ، وللإيذان بأنهم مُمازون بذلك الوصف القبيح أكمل امتياز ، وما فيه من معنى البُعد للإشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد ، أي : ألاَ يظنُّ أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم ولا يقادَر قدره ، ويُحاسبون فيه على قدر الذرّة والخردلة ، فإنَّ مَن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على تلك القبائح ، فكيف بمَن يتيقنه ؟ وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابياً قال له : قد سمعتَ ما قال الله في المطفّفين أراد بذلك أنَّ المُطَفف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ؟ ! . { يومَ يقومُ الناسُ } ، منصوب بـ " مبعوثون " أي : يُبعثون يومَ يقوم الناس { لرب العالمين } أي : لحكمِه وقضائه ، أو لجزائه بعقابه وثوابه ، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه السورة فلمّا بلغ هنا بكى نحيباً ، وامتنع من قراءة ما بعده . { كلاَّ } ردع وتنبيه ، أي : ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه ، ثم علل الردع المذكور ، فقال : { إِنَّ كتابَ الفُجَّار } أي : صحائف أعمالهم { لفي سِجّينٍ } ، جمهور المفسرين أنَّ " سِجين " موضع تحت الأرض السابعة ، كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة ، وفي القاموس : عليون جمع " عِلِّيّ " في السماء السابعة ، تصعد إليه أرواح المؤمنين ، و " سجّين " موضع في كتاب الفجار ، ووادٍ في جهنم ، أو حجر في الأرض السابعة . هـ . وفي حديث أنس صلى الله عليه وسلم قال : " سجين أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة : قال صلى الله عليه وسلم : " الفلق : جُب في جهنم مغطى ، وسِجين : جُب في جهنم مفتوح " والمعنى : إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين . هو علم منقول من الوصف " فعيل " من السجن لأنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه ، وهو منصرف لوجود سبب واحدٍ فيه ، وهو العلميّة ، لأنه علم لموضع . ثم عَظَّم أمره فقال : { وما أدراك ما } هو { سِجّينٌ } أي : هو بحيث لا يبلغه دراية أحد ، وقوله تعالى : { كتاب مرقوم } ، قال الطيبي : هو على حذف مضاف ، أي : موضع كتاب مرقوم . هـ . أو : فيه كتاب مرقوم ، وهو بدل من " سِجّين " أو : خبر عن مضمر ، بحذف ذلك المضاف ، وأمّا مَن جعله تفسيراً لسجّين ، بأن جعل سجيناً هو نفس الكتاب المرقوم فلا يصح إذ يصير المعنى حينئذ : إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب ، ولا معنى له . { ويل يومئذٍ للمكَذّبين } هو متصل بقوله : { يوم يقوم الناسُ لرب العالمين } وقيل : ويل يوم يخرج ذلك المكتوب للمكذّبين { الذين يُكَذِّبون بيوم الدين } الجزاء والحساب ، { وما يُكَذِّب به } بذلك اليوم { إِلاَّ كُل معتدٍ } مجاوِز للحدود التي حدّتها الشريعة ، أو مجاوِز عن حدود النظر والاعتبار حتى استقصر قدرة الله على إعادته ، { أثيمٍ } مكتسب للإثم منهمك في الشهوات الفانية حتى شغلته عما وراءها من اللذة الباقية ، وحملته على إنكارها ، { إِذا تُتلى عليه آياتُنا } التنزيلية الناطقة بذلك { قال } : هي { أساطيرُ الأولين } أي : أحاديث المتقدمين وحكايات الأولين ، والقائل : قيل : الوليد بن المغيرة ، وقيل : النظر بن الحارث ، وقيل : عام لمَن اتصف بالأوصاف المذكورة . { كلاَّ } ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له ، { بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسِبون } ، هو بيان لما أدّى بهم إلى التفوُّه بهذه العظيمة أي : ليس في آياتنا ما يصحح أن يُقال فيها هذه المقالات الباطلة ، بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا يكسبون من الكفر والجرائم حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة ، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء ، حتى يسوّد قلبه … " الحديث ، أي : ولذلك قالوا ما قالوا . والرين : الصدأ ، يقال : ران عليه الذنب وغان ريناً وغيناً . { كلاَّ } ردع وزجر عن الكسب الرائن { إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون } لَمَّا رانت قلوبهم في الدنيا حُجبوا عن الرؤية في الآخرة ، بخلاف المؤمنين لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم . قال مالك : لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه . هـ . وقال الشافعي : في هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه . هـ . وقال الزجاج : في هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله . انظر الحاشية . { ثم إِنهم لصالُو الجحيم } أي : داخلو النار ، و " ثم " لتراخي الرتبة ، فإنّ صَلي الجحيم أشد من الإهانة ، والحرمان من الرؤية والكرامة . { ثم يُقال } لهم : { هذا الذي كنتم به تُكَذِّبون } في الدنيا فذُوقوا وباله . وبالله التوفيق . الإشارة : التطفيف يكون في الأعمال والأحوال ، كما يكون في الأموال ، فالتطفيف في الأعمال عدم إتقانها شرعاً ، ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما : الصلاة مكيال ، فمَن وَفَّى وُفِّي له ، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين . هـ . فكل مَن لم يُتقن عملَه فعلاً وحضوراً فهو مطفف فيه . والتطفيف في الأحوال : عدم تصفية القصد فيها ، أو بإخراجها عن منهاج الشريعة ، قال تعالى : { ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون … } الخ ، قال القشيري : يُشير إلى المقصّرين في الطاعة والعبادة ، الطالبين كمال الرأفة والرحمة ، الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام ، ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران ، ذلك خسران مبين ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد ، مهيب المحضر ، فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم . هـ . يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم يكثر فيه الهول ، ويعظم فيه الخطب على المقصّرين ، وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين . { كلاَّ } ليرتدع المقصّر عن تقصيره لئلا ينخرط في سلك الفجار ، { إن كتاب الفجّار لفي سجين } المراد بالكتاب هنا : كتاب الأزل ، وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " السعيد مَن سعد في بطن أمه ، والشقي مَن شقي في بطن أمه " و { وما أدراك ما سجين } فيه { كتاب مرقوم } لأهل الشقاء شقاوتهم . { ويل يومئذ للمُكَذِّبين } بالحق وبالدالين عليه ، { الذين يُكَذِّبون بيوم الدين } وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم ، { وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم } متجاوز عن الذوق والوجدان ، محروم من الكشف والعيان ، { إذا تُتلى عليه آياتنا } الدالة علينا { قال أساطير الأولين } أي : إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال : خرافات الأولين . وسبب ذلك : الرانُ الذي ينسج على قلبه ، كما قال تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } لمّا رانت قلوبهم ، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى ، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا ، ودام حجابهم في العقبى إلاَّ في أوقات قليلة ، قال الحسن بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته . هـ . قال الواسطي : الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة ، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقت . هـ . أي : والعارفون يرونه كل وقت ، ثم قال : ولا حجاب له غيره ، وليس يسعه سواه ، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط ، ولا فارقت عنه . هـ . وقال في الإحياء : النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى ، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم ، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب ، قال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم } فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب ، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار ، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه ! هـ . وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة ، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى ، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة ، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة ، ويكون من المقربين أهل عليين ، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين . وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست : ران الكفر ، وران العصيان ، وران الغفلة ، وران حلاوة الطاعات ، وران حس الكائنات ، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان ، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلاَّ بصُحبة المشايخ العارفين . وبالله التوفيق . ثم ذكر كرامة الأبرار وشأن المقربين ، فقال : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } .