Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 85, Ayat: 11-22)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنّ الذين آمنوا } وصبروا على الإيمان { وعَمِلوا الصالحات } من المفتونين وغيرهم { لهم } بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح { جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ } ، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة ، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها ، كما يعرب عنه اسم الجنة . { ذلك هو الفوزُ الكبير } الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها ، والفوز : النجاة من الشر والظفر بالخير . والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر والتذكير لتأويلها بما ذكر ، وإمّا إلى ما يفيده قوله : { لهم جنات … } الخ ، من حيازتهم لها ، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً ، وما فيه من البُعد للإيذان بعلو درجته ، وبُعد منزلته في الفضل . ومحله : الرفع ، وخبره : ما بعده . { إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ } ، البطش : الأخذ بعنف ، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره . والمراد : أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام ، وهو استئناف ، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه ، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم . { إِنه هو يُبدىء ويُعيد } أي : هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده ، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها . ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه ، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه ، أو : هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة . { وهو الغفورُ } الساتر للعيوب ، الغافر للذنوب ، { الودودُ } المحب لأوليائه ، أو : الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود ، من إعطائهم ما أرادوا ، { ذو العرش } أي : خالقه ومالكه ، وقيل : المراد بالعرش : المُلك ، أي : ذو السلطة القاهرة { المجيدُ } بالجر صفة للعرش ، وبالرفع صفة لذُو ، أي : العظيم في ذاته ، فإنه واجب الوجود ، تام القدرة { فعَّالٌ لما يُريد } بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده ، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد ، وهو خبر عن محذوف . { هل أتاك حديثُ الجنود } أي : قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية . وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة والكفرة العتاة . وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود . { فرعونَ وثمودَ } بدل من الجنود لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه . والمراد بحديثهم : ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال ، وما حلّ بهم من العذاب والنكال ، أي : قد أتاك حديثهم ، وعرفت ما فعل بهم ، فذكّر قومك ببطش الله تعالى ، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم . { بل الذين كفروا في تكذيبٍ } ، إضراب عن مماثلتهم ، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان ، كأنه قيل : ليسوا مثلهم في ذلك ، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب ، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم ، أو كأنه قيل : ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم ، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك ، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات ، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره ، وظهور حاله ، بالبينات الباهرة . { واللهُ من ورائهم محيط } عالم بأحوالهم ، قادر عليهم ، لا يفوتونه . وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط . { بل هو قرآن مجيد } أي : بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية ، وفي نظمه وإعجازه ، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم ، وتحقيق للحق ، أي : ليس الأمر كما قالوا ، بل هو كتاب شريف { في لوح محفوظ } من التحريف والتبديل . وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن ، والباقي بالجر صفة للوح ، أي : محفوظ من وصول الشياطين إليه . واللوح عند الحسن : شيء يلوح للملائكة يقرؤونه ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو من درّة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور ، وكل شيءٍ فيه مسطور . قال مقاتل : هو عن يمين العرش ، وقيل : أعلاه معقود بالعرش ، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم هـ . الإشارة : إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا ، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار ، يعني العمل الباطني ، لهم جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم ، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى . إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب ، إنه هو يُبدىء ويُعيد ، يُبدىء الحجاب للمحجوبين ، ويُعيد الشهود للعارفين ، وهو الغفور للتائبين المتوجهين ، الودود للسائرين المحبين . قال الورتجبي : الغفور للجنايات ، الودود بكشف المشاهدات . هـ . ذو العرش : ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية . قال الورتجبي : وصف نفسه بإيجاد العرش ، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه ، أي : بقوله : { المجيد } إعلاماً بأنه كان ولا مكان ، والآن ليس في المكان ، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان ، والحاجة إلى الحدثان . هـ . قال القشيري : ويجوز أن يكون المراد بالعرش : قلب العارف المستَوي للرحمن ، كما جاء الحديث : " قلب العارف عرش الله " هـ . فعّال لما يُريد ، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء . قال القشيري : إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك ، وهو عادل في ذلك ، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك . هـ . فلذا كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، هل أتاك حديث الجنود ، أي : جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل ، ثم فسّرها بفرعون الهوى ، وثمود حب الدنيا ، والطبع الدني . بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب ، لهذا كله ، فلا يُفرقون بين الروح والنفس ، ولا بين الفرق والجمع ، والله من ورائهم محيط ، لا يفوته شيء ، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً ، بل هو أي : ما يوحي إلى الأسرار الصافية ، والأرواح الطاهرة قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية ، وهو قلب العارف . والله تعالى أعلم . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .