Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 94, Ayat: 1-8)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلاّ جلاله : { ألم نشرحْ لك صدرك } أي : ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة ، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة ، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية ، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق ، وقيل : المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه ، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء ، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة . والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير " بلى " . وزيادة " لك " وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى الله عليه وسلم ومصالحة ، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وتشويقاً إلى ما يعقبه ، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن . وقال في الوجيز : هو استفهام معناه التقرير ، أي : ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة . قال في الحاشية الفاسية : والظاهر أنه إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله : { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } [ طه : 25 ] ، وأنه بادَاه به من غير طلب ، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة ، متضمن حمل ثقل تبليغها لكونه في ذلك بربه ويناسبه ما بعده من وضع الوزر ، وهو لغة : الحمل الثقيل ، كما في الوجيز ، وشرح الصدر : بسطه بنور إلهي . هـ . { ووضعنا عنك وِزْرَكَ } ، عطف على مدلول الجملة السابقة ، كأنه قيل : قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ، أي : حططنا عنك عبأك الثقيل ، { الذي أَنْقَضَ ظهرك } أي : أثقله حتى سمع له نقيض ، وهو صوت الانتقاض ، أي : خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، أو : يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل ، والأنبياء يعاتبون بمثلها ، ووضعه عنه : أن يغفر له . قال ابن عرفة : التفسير السالم فيه : أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد ، أو يتجوّز في الوزر ، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى : أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك ، وإن أريد بالوزر المجازي ، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية ، فيكون الوضع حقيقة ، والوزر مجازاً . هـ . قلت : والظاهر : أنَّ كل مقام له ذنوب ، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب ، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه ، فاهتمّ من أجله ، وجعل منه حملاً على ظهره ، فأسقطه الحق تعالى عنه ، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق ليتخلّى من ذلك الاهتمام . وزاده شرفاً بقوله : { ورفعنا لك ذِكرك } أي : نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب ، ومِن رَفْعِ ذكره صلى الله عليه وسلم أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد ، وفي مواضع من القرآن : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ النساء : 13 ] { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وتسميته رسول الله ، ونبي الله ، وقد ذكره في كتب الأولين . قال ابن عطية : رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول ، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس ، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة . هـ . قلت : والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه : مَن أحبّ الظهور فهو عبد الظهور ، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره . هـ . والخمول للمريد أسلم ، والظهور للواصل أشرف وأكمل . ثم بشّر رسولَه وسلاَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله : { فإِنَّ مع العُسْرِ يُسراً } أي : إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم . وقيل : كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر ، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله ، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ، ثم قال : { فإِنَّ مع العسكر يُسراً } كأنه قال : خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله ، { إِنَّ مع العسر } الذي أنتم فيه { يُسراً } ، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تكريره ، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها : " لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً ، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ، واليُسر أعيد نكرة ، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ، فصار المعنى : إنَّ مع العُسر يسريْن ، وبعضهم يكتبه بياءين ، ولا وجه له . { فإِذا فرغتَ } من التبليغ أو الغزو { فانصبْ } فاجتهد في العبادة ، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة ، ووعدك من الآلاء اللاحقة ، أو : فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق ، وقيل : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء ، أو : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة ، أي : في سبب استحقاق الشفاعة ، { وإِلى ربك فارغبْ } في السؤال ، ولا تسأل غيره ، فإنه القادر على إسعافك لا غيره . وقُرىء : " فرغِّب " أي : الناس إلى ما عنده . الإشارة : ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها ، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله ، حرفاً بحرف ، فيقال له : ألم نُوسع صدرك لمعرفتي ، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا ، أو : وضعنا عنك أثقال السير ، فحملناك إلينا ، فكنت محمولاً لا حاملاً ، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة ، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا ، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة ، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة ، أو : فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك ، وارغب في هداية الخلق . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .