Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 95, Ayat: 1-8)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { والتينِ والزيتونِ } ، أقسم بهما تعالى لِما فيهما من المنافع الجمّة . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أُهْدِي له طبقٌ من تينٍ فأكل منه ، وقال لأصحابه : " كُلوا ، فلو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه ، لأن فاكهة الجنة ، بلا عَجَمِ ، فكلوها فإنها تقْطَعُ البواسير ، وتنفَعُ من النقْرسِ " . وهو أيضاً فاكهة طيبة لا فضل له ، وغذاء لطيف سريع الهضم ، كثير النفع ، ملين الطبع ، ويحلل البلغم ، ويُطهر الكليتين ، ويزيل ما في المثانة من الرمل ، ويسمن البدن ، ويفتح سُرد الكبد والطحال . وعن عليّ بن موسى الرضا : التين يزيل نكهة الفم ، ويطيل الشعر ، وهو أمان من الفالج . هـ . وأمّا الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء ، ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى به فضلاً . وشجرته هي الشجرة المباركة ، المشهود لها في التنزيل . ومرّ معاذُ بن جبل بشجرة الزيتون ، فأخذ منها قضيباً واستاك به . وقال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " نعم السواك الزيتون ، هي الشجرة المباركة ، يطيب الفم ، ويذهب بالحفرة " وقال : " هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس : هو تينكم هذا ، وزيتونكم هذا . وقيل : هما جبلان بالشام ينبتانهما . { وطُورِ سينينَ } ، أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة ، وهو الجبل الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه ، ويُقال له : سينين وسيناء . { وهذا البلد الأمين } وهو مكة ، شرّفها الله ، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه . ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين . وجواب القسم : { لقد خلقنا الإِنسانَ } أي : جنس الإنسان { في أحسن تقويمٍ } أي : كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى ، حيث جعله اللهُ مستوي القامة ، متناسب الأعضاء ، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله خلق آدم على صورته " ، وفي رواية : " على صورة الرحمن " على بعض الأقوال . وشرح عجائب الإنسان يطول . { ثم رددناه أسفلَ سافلين } أي : جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح ، وأسفل من كل سافل ، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات ، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين . وقيل : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القدرة ، كقوله تعالى : { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } [ يَس : 68 ] أي : ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه فقوَّس ظهره بعد اعتداله ، وابْيَضَّ شعره بعد سواده ، وتكمش جلده ، وكَلّ سمعه وبصره . { إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، استثناء متصل على التفسير الأول ، ومنقطع على الثاني ، { فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ } أي : رددناه أسفل السافلين إلاَّ مَن آمن ، أو : لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى ، فلهم ثواب غير منقطع ، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة ، خصوصاً وقت الكبر . وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة ، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه " . ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا . قاله النسفي . والخطاب في قوله : { فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين } للإنسان ، على طريقة الالتفات ، أي : فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع ، والبرهان الساطع بالجزاء ، والمعنى : إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ ، وتسويته بشراً سويًّا ، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك بالجزاء ؟ ! أو : بالرسول صلى الله عليه وسلم : أي : فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع ؟ { أليس اللهُ بأحكم الحاكمين } وعيد للكفار ، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله ، وهو من الحُكم والقضاء ، أي : أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك . وقيل : مِن الحِكمة ، بمعنى الإتقان ، أي : أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء . وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " . الإشارة : حاصل ما ذكره القشيري : أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء ، لغاية شرفها الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية ، والثانية : شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها ، وإليه الإشاره بقوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [ النور : 35 ] الخ . والثالثة : شجرة السر ، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة . والرابعة : البلد الأمين ، الذي هو حال التلبيس والخفاء ، بعد التمكين ، وهو الرجوع للأسباب ، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية ، وهو مقام الكملة . والمقسَم عليه : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } قال القشيري : أي : في المظهر الأكمل والأتم ، والمحل الأعم ، حامل الأمانة الإلهية ، وصاحب الصورة الرحمانية ، روحانيته أُم الروحانيات وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها ، ونشأته أوسع النشآت وأشملها . هـ . قلت : وإليه أشار الششتري بقوله : @ وفيك يطوى ما انتشر من الأواني @@ وقول الشاعر : @ يا تائهاً في مهمهٍ عن سره انظر تجد فيك الوجودَ بأسره أنت الكمال طريقة وحقيقة يا جامعاً سر الإله بأسره @@ وقال في لطائف المنن ، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي : قرأتُ ليلة { والتين والزيتون } إلى أن انتهيت إلى قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } ففكرتُ في معنى الآية ، فكشف لي عن اللوح المحفوظ ، فإذا فيه مكتوب : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً ، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى . هـ . فقوله تعالى : { إلاّ الذين آمنوا … } الخ هم أهل الروح والعقل ، الباقون في حسن التقويم ، وغيرهم أهل النفس والهوى ، والله تعالى أعلم . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .