Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 96, Ayat: 6-19)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { كلاَّ } ، هو ردع لمحذوف ، دلّ الكلام عليه ، كأنه قيل : خلقنا الإنسان من علق ، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة ، فكفر وطغى ، كلا لينزجر عن ذلك { إِنَّ الإِنسان ليطغى } يجاوز الحد ويستكبر عن ربه . قيل : هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان ، وهو الظاهر . وقوله : { أن رآه استغنى } مفعول له ، أي : ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً ، على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى ، لأنه بمعنى عَلِم ، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في " ظننتني وعَلِمتني " وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً ، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان ، الماء والتمر " ، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب . وحاصل الآية : أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال ، وسبب تواضعه هو فقره . ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان ، على طريق الالتفات ، فقال : { إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى } أي : الرجوع فيجازيك على طغيانك . { أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى } أي : أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، وهو تشنيع بحاله ، وتعجيب منها ، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية . رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش ، فقال : لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه ، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا : مالك ؟ فقال : حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ، فنزلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لو دنا مني لاختطفته الملائكة " . وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم ، والرؤية هنا بصرية ، وأمّا في قوله : { أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى } وفي قوله : { أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى } فعلمية ، أي : أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها . والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب . قال في الكشاف : قوله تعالى : الذي ينهى هو المفعول الأول لقوله : أرأيت الأول ، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني ، وكررت أرأيت بعد ذلك للتأكيد ، فلا تحتاج إلى مفعول . وقوله : { ألم يعلم بأنَّ الله يرى } هو جواب قوله : { إن كذَّب وتولى } ، وجواب قوله : { إن كان على الهدى } محذوف ، يدل عليه جواب قوله : { إن كذَّب وتولى } فهو في المعنى جواب للشرطين معاً . والضمير في قوله : { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للناهي ، وهو أبو جهل ، وكذا في قوله : { إن كذَّب وتولَّى } ، والتقدير على هذا : أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى ، ألم يعلم بأنّ الله يرى جميع أحواله ، فمقصود الآية : تهديد له وزجر ، وإعلام بأنّ الله يراه . وخالفه ابن عطية في الضمائر ، فقال : إنَّ الضمير في قوله : { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } للعبد الذي صلَّى ، وأنّ الضمير في قوله : { إن كذَّب وتولّى } للناهي ، وخالفه في جعل " أرأيت " الثانية مكررة للتأكيد فقال : " أرأيت " في المواضع الثلاثة توقيف ، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة : قوله : { ألم يعلم بأن الله يرى } فإنه يصلح مع كل واحدة منها ، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً . انظر ابن جزي . وما قاله ابن عطية أظهر ، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان ، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى ، وكأنه قال : يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى ، ثم أقبل على الآخر ، فقال : أرأيت إن كذَّب . الخ . وقال الغزنوي : جواب { إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى } محذوف ، تقديره : أليس هو على الحق واتباعه واجب ، يعني : فكيف تنهاه يا مكذّب ، متولي عن الهدى ، كافر ، ألم تعلم أن الله يراك . هـ . { كلاَّ } ، ردع للناهِي عن عبادة الله { لئن لم ينتهِ } عما هو عليه { لَنَسْفعاً بالناصيةِ } لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة . وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف . واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور ، ثم بيّنها بقوله : { ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ } فهي بدل وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها ، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز ، وهما لصاحبهما . وفيه من الجزالة ما ليس في قوله : ناصية كاذب خاطىء . { فَلْيَدْعُ ناديَه } ، النادي : المجلس الذي يجتمع فيه القوم . رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي ، فقال : ألم أَنْهكَ ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً ؟ فنزلت . { سَنَدْعُ الزبانية } ليجروه إلى النار . والزبانية : الشُّرَطِ ، واحدة : زِبْنِيَّة أو زِبْنى ، من الزبن ، وهو الدفع . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً " . { كلاَّ } ، ردع لأبي جهل { لا تُطِعْهُ } أي : أثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ القلم : 8 ] { واسجدْ } واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث { واقترب } وتقرّب بذلك إلى ربك . الإشارة : كل مَن أنكر على المتوجهين ، الذين هم على صلاتهم دائمون ، يُقال في حقه : أرأيت الذي يَنهى عبداً إذا صلّى … إلى آخر الآيات . ويُقال للمتوجه : لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك ، وتقرّب بذلك إلى مولاك ، حتى تظفر بالوصول إليه . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .