Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 29-29)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المعنى : { هو } كناية عن الله عز وجل في قوله : { تكفرون بالله } واراد به تأكيد الحجة فقال : { كيف تكفرون بالله } الذي احياكم بعد موتكم { ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون الذي خلق لكم ما في الأرض } يعني الذي في الارض . و { ما } في موضع نصب ، لأن الأرض وجميع ما فيها نعمة من الله لخلقه : اما دينية فيستدلون بها على معرفته ، وإما دنيوية فينتفعون بها لضروب النفع عاجلا وقوله : { ثم استوى إلى السماء } فيه وجوه : احدها ما قاله الفراء : من ان معناه اقبل عليها . كما يقول القائل : كان فلان مقبلا على فلان يشتمه ، ثم استوى الي يشتمني ، واستوى عليّ يشاتمني قال الشاعر : @ اقول وقد قطعن بنا شروري ثواني واستوين من الضجوع @@ أي أقبلن وخرجن من الضجوع وقال قوم : ليس معنى البيت ما قاله وانما معناه استوين على الطريق من الضجوع خارجات بمعنى استقمن عليه . وقال قوم : معنى استوى : قصدها لتسويتها كقول القائل : قام الخليفة يدبر أمر بني تميم ، ثم استوى وتحول إلى بني ربيعة ، فأعطاهم وقسم لهم اي قصد اليه . ويقال مر فلان مستوياً إلى موضع كذا ولم يعدل اى قصد اليها . وقال قوم : معنى استوى اى استولى على السماء بالقهر كما قال : { لتستووا على ظهوره } أى تقهروه ومنه قوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } أى تمكن من أمره وقهر هواه بعقله فقال : { ثم استوى إلى السماء } في تفرده بملكها ، ولم يجعلها كالارض ملكا لخلقه ومنه قول الشاعر : @ فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر @@ وقال آخر : @ ثم استوى بشر على العراق من سيف ودم مهراق @@ وقال الحسن : ثم استوى امره وصنعه إلى السماء ، لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض وقال بعضهم استوى بمعنى استوت به السماء كما قال الشاعر : @ اقول له لما استوى في تراثه على أي دين قتل الناس مصعب @@ وأحسن هذه الوجوه أن يحمل على أنه علا عليها فقهرها ، وارتفع فدبرها بقدرته ، وخلقهن سبع سماوات ، فكان علوه عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال ، وبعد ذلك قول من قال : قصد اليها فخلقها ، ولا يقدح في الأول علوه تعالى على الاشياء فيما لم يزل ، لأنه وان كان كذلك لم يكن قاهراً لها بحلقها ، لأن ذلك متجدد ، وانما قال : إلى السماء ولا سماء هناك كما يقول القائل : اعمل هذا الثوب وانما معه غزل ، وقال قوم : انما سواهن سبع سماوات بعد ان كانت دخانا والاول أملح ، وقال الرماني السموات غير الافلاك لأن الأفلاك تتحرك وتدور واما السماوات لا تتحرك ولا تدور لقوله تعالى : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } وهذا ليس بصحيح ، لأنه لا يمتنع ان تكون السماوات هي الأفلاك وان كانت متحركة ، لأن قوله تعالى : { يمسك السماوات والأرض أن تزولا } معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها . ولولا امساكه لهوت بما فيها من الاعمالات سفلا . ومعنى ( سواهن ) أي هيأهن وخلقهن وقومهن ودبرهن والتسوية : التقويم والاصلاح . يقال سوى فلان لفلان هذا الأمر أي قومه واصلحه . وقال الفراء : السماء واحدة تدل على الجمع فلذلك قال : { ثم استوى إلى السماء } فذكرها بلفظ الواحد . ثم اخبر عنها بلفظ الجمع في قوله : { فسواهن } وقال الأخفش : السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير كقولهم اهلك الناس الدينار والدرهم . وقال بعضهم : السماء جمع واحده سماوة : مثل بقرة وبقر ، ونخلة ونخل ، وثمرة وثمر ولذلك أنثت فقيل هذه سماء ، وذكرت أخرى فقيل : { السماء منفطر به } كما يفعل ذلك بالجمع الذى لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها فيقال : هذا نخل ، وهذه نخل وهذا بقر وهذه بقر . ومن قال بالاول قال : إذا ذكرت فانما هو على مذهب من يذكر المؤنث كقول الشاعر : @ فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض ابقل ابقالها @@ وقال اعشى بني ثعلبة : @ فلما ترى لمتي بدّلت فان الحوادث أزرى بها @@ وقال قوم : إن السماوات ، وان كانت سماء فوق سماء . وارضاً فوق أرض فهي في التأويل واحدة ، وتكون الواحدة جماعا كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ؛ ورمة اعشار ، للمتكسرة ، وبرمه اكسار واجبار واخلاق ، أي نواحية أخلاق ويقال ارض اعقال وارض اخصاب . والمعنى أن كل ناحية منها كذلك ، فجمع على هذا . ولا ينافي ذلك قول من قال : إن السماء كانت دخاناً قبل أن يسويها سبع سماوات ، ثم سبعاً بغير استوائه عليها . وذلك أنه يقول : كن سبعاً غير مستويات ، فسواها الله تعالى فان قيل : قوله { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } ظاهره يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء ، لأن { ثم } للتعقيب ، وللتراخي . وقال في موضع آخر : { أنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها } ثم قال : { والأرض بعد ذلك دحاها } هذا ظاهر التناقض . قلنا : المعنى في ذلك خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها . فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك ودحوها : بسطها ، ومدها ومنه ادحية لنعام ، سميت بذلك ، لأنها تبسطها لتبيض فيها . ويجوز أن لا يكون معنى { ثم } و { بعد } في هذه الآيات الترتب في الاوقات والتقدم والتأخر فيها ، انما هو على جهة تعداد النعم والاذكار لها . كما يقول القائل لصاحبه : أليس قد اعطيتك ، ثم حملتك ، ثم رفعت في منزلتك ، ثم بعد ذلك كله خلطتك بنفسي وفعلت بك وفعلت . وربما يكون بعض الذى ذكره في اللفظ متقدما ، كان متأخرا ، لأن المراد لم يكن الاخبار عن اوقات الفعل ، وانما المراد الذكر والتنبيه عليها . فان قيل أي نسبة بين قوله : { ثم استوى إلى السماء } وبين قوله : { وهو بكل شيء عليم } وكان يجب ان يقول : { وهو على كل شيء قدير } قيل انما جاز ذلك ، لأن الله لما وصف نفسه بما يدل على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بما يدل على العلم ، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الاحكام ، والاتقان . وايضاً اراد أن يبين انه عالم بما يؤول اليه حاله ، وحال المنعم به عليه ، فيستحق بذلك النعمة . وتلخيص معنى الآية ان الله تعالى هو الذى خلق لكم الأرض وما فيها من الجبال والمياه والاشجار ، وما قدر فيها من الأقوات ، ثم قضى خلق السماء بعد خلقه الأرض . ومعنى استوى أي عمد لها وقصد إلى خلقها ، وسواها سبع سماوات فبناهن وركبهن كذلك ونظير ذلك قوله : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام } يعني يومين بعد اليومين الأولين حتى صار بذلك اربعة ايام ثم استوى إلى السماء . فمعنى قوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } هو الذي بينه بقوله : { وجعل فيها رواسي من فوقها … } الآية وجعل ذكره لذلك في الآية الأولى تأكيد الحجة على عباده لئلا يكفروا به ، ولأن يؤمنوا به ويشكروه . وقوله : { كيف تكفرون } يدل انه تعالى ما اراد الكفر منهم ، لأنه لو اراده منهم وخلقه فيهم لما قال ذلك . كما لا يحسن أن يقول : لم كنتم سواداً وبيضاً وطوالا وقصاراً . وقوله : وهي دخان فالذي روي في الاخبار أن الله تعالى لما خلق الأرض ، خلقها بعد الماء فصعد منه بخار وهو الدخان ، فخلق الله منه السماوات وذلك جائز لا يمنع منه مانع . وقوله : { وهو بكل شيء عليم } معناه عالم وفيه مبالغة . وانما أراد اعلامهم أنه لا يخفى عليه شيء من افعالهم الظاهرة والباطنة ، والسر والعلانية .