Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 103-103)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في هذه الآية دلالة واضحة على انه تعالى لا يرى بالابصار ، لانه تمدح بنفي الادراك عن نفسه . وكلما كان نفيه مدحا غير متفضل به فاثباته لا يكون الا نقصا ، والنقص لا يليق به تعالى . فاذا ثبت انه لا يجوز ادراكه ، ولا رؤيته ، وهذه الجملة تحتاج الى بيان اشياء : احدها - انه تعالى تمدح بالآية . والثاني - ان الادراك هو الرؤية . والثالث - ان كلما كان نفيه مدحا لا يكون اثباته الا نقصا . والذي يدل على تمدحه شيآن : احدهما - اجماع الامة ، فانه لا خلاف بينهم في انه تعالى تمدح بهذه الآية ، فقولنا : تمدح بنفي الادراك عن نفسه لاستحالته عليه . وقال المخالف : تمدح لانه قادر على منع الابصار من رؤيته ، فالاجماع حاصل على ان فيها مدحة . والثاني - ان جميع الاوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة ، فلا يجوز ان يتخلل ذلك ما ليس بمدحة . والذي يدل على ان الادراك يفيد الرؤية ان اهل اللغة لا يفرقون بين قولهم : ادركت ببصري شخصا ، وآنست ، واحسست ببصري . وانه يراد بذلك اجمع الرؤية . فلو جاز الخلاف في الادراك ، لجاز الخلاف فيما عداها من الاقسام . فاما الادراك في اللغة ، فقد يكون بمعنى اللحوق ، كقولهم : ادراك قتادة الحسن . ويكون بمعنى النضج ، كقولهم ادركت الثمرة ، وادركت القدر ، وادرك الغلام اذا بلغ حال الرجال . وأيضا فان الادراك اذا اضيف الى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة . فيه ألا ترى انهم يقولون : ادركته بأذني يريدون سمعته ، وادركته بانفي يريدون شممته وادركته بفمي يريدون ذقته . وكذلك اذا قالوا : ادركته ببصري يريدون رأيته . واما قولهم ادركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع ، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد ، لان قولهم حرارة الميل تقييد لان الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة ، ولو قال ادركت الميل ببصري لما استفيد به الا الرؤية . وقولهم ان الادراك هو الاحاطة باطل ، لانه لو كان كذلك لقالوا : أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لاحاطة جميع ذلك بما فيه ، والامر بخلاف ذلك . وقوله { حتى إذا أدركه الغرق } فليس المراد به الاحاطة بل المعنى حتى اذا لحقه الغرق ، كما يقولون أدركت فلانا اذا لحقته ، ومثله { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إِنا لمدركون } أي لملحقون ، والذي يدل على أن المدح اذا كان متعلقا بنفي فاثباته لا يكون الا نقصا ، قوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } وقوله { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إِله } لما كان مدحا متعلقا بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصا . فان قيل كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من المعدومات والضمائر . ؟ قلنا : انما كان ذلك مدحا بشرط كونه مدركا للأبصار وبذلك يميز من جميع الموجودات لانه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك . فان قيل : ولم اذا كان يدرك ولا يدرك يجب ان يكون ممدوحا ؟ ؟ قلنا : قد ثبت ان الآية مدحة بما دللنا عليه ، ولا بد فيها من وجه مدحة فلا يخلو من أحد وجهين : اما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع كونه رائيا أو ما قالوه من أنه يقدر على منع الابصار من رؤيته بأن لا يفعل فيها الادراك ، وما قالوه باطل لقيام الدلالة على أن الادراك ليس بمعنى الاحاطة ، فاذا بطل ذلك لم يبق الا ما قلناه ، والا خرجت الآية من كونها مدحة . وقد قيل : ان وجه المدحة في ذلك أن من حق المرئي أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل وذلك يدل على مدحته ، وهذا دليل من أصل المسألة لا يمكن ان يكون جوابا في الآية . فان قيل : انه تعالى نفى أن تكون الابصار تدركه فمن أين ان المبصرين لا يدركونه ؟ قلنا : الابصار لا تدرك شيئا البتة فلا اختصاص لها به دون غيره ، وأيضا فان العادة ان يضاف الادراك الى الابصار ويراد به ذووا الابصار ، كما يقولون : بطشت يدي وسمعت أذني وتكلم لساني ويراد به أجمع ذووا الجارحة فان قيل : انه تعالى نفى أن جميع المبصرين لا يدركونه ، فمن أين أن البعض لا يدركونه وهم المؤمنون ؟ قلنا : اذا كان تمدحه في استحالة الرؤية عليه لما قدمناه فلا اختصاص لذلك براء دون رائي ، ولك ان تستدل بأن تقول : هو تعالى نفى الادراك عن نفسه نفيا عاما كما أنه أثبت لنفسه ذلك عاما فلو جاز ان يخص ذلك بوقت دون وقت لجاز مثله في كونه مدركا . واذا ثبت نفي ادراكه على كل حال فكل من قال بذلك قال الرؤية مستحيلة عليه . ومن أجاز الرؤية لم ينفها نفيا عاما فالقول بنفيها عموما مع جواز الروية عليه قول خارج عن الاجماع . فان عورضت هذه الآية بقوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فانا نبين انه لا تعارض بينهما وانه ليس في هذه الآية ما يدل على جواز الرؤية اذا انتهينا اليها ان شاء الله . وقوله { وهو اللطيف الخبير } قيل في معنى { اللطيف } قولان : أحدهما - أنه اللاطف لعباده بسبوغ الانعام ، غير انه عدل من وزن ( فاعل ) الى ( فعيل ) للمبالغة . الثاني - أنه لطيف التدبير ، وحذف لدلالة الكلام عليه . والخبير هو العالم بالاشياء المتبين لها ، وما ذكرناه من أن معنى الآية نفي الرؤية عن نفسه على كل حال قول جماعة منهم عائشة ، روى مسروق عن عائشة انها قالت : من حدثك أن رسول الله رأى ربه فقد كذب { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } و { ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } ولكن رأى جبرائيل في صورته مرتين . وفي رواية أخرى أن مسروقا لما قال لها : هل رأى محمد ربه ؟ قالت : سبحان الله ، لقد وقف شعري مما قلت ، ثم قرأت الآية . وقال الشعبي قالت عائشة من قال : ان أحدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، وقرأت الآية ، وهو قول السدي وجماعة أهل العدل من المفسرين كالحسن والبلخي والجبائي والرماني وغيرهم . وقال أهل الحشو والمجبرة بجواز الرؤية على الله تعالي في الآخرة وتأولوا الآية على الاحاطة وقد بينا فساد ذلك .