Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-10)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ { سلاسلاً } منوناً نافع والكسائي وابو بكر عن عاصم اتباعا للمصحف ولتشاكل ما جاوره من رأس الآية . الباقون بغير تنوين ، لان مثل هذا الجمع لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة ، لأنه على ( فعائل ) بعد الفه حرفان . يقول الله تعالى { هل أتى على الإنسان } قال الزجاج : معناه ألم يأت على الانسان { حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } يعني قد كان شيئاً إلا انه لم يكن مذكوراً ، لانه كان تراباً وطيناً الى أن نفخ فيه الروح . وقال قوم { هل } يحتمل معناه أمرين : احدهما - أن يكون بمعنى ( قد أتى ) والثاني أن يكون معناها اتى على الانسان ، والاغلب عليها الاستفهام والاصل فيها معنى ( قد ) لتجرى على نظائرها بمعنى ضمن معنى الالف واصله من ذلك قول الشاعر : @ أم هل كبير بكى لم تقض عبرته أثر الأحبة يوم البين مشكوم @@ والمعنى بالانسان - ها هنا - آدم - فى قول الحسن - والمعنى قد أتى على آدم { حين من الدهر } وبه قال قتادة وسفيان . وقيل : ان آدم لما خلق الله جثته بقي أربعين سنة لم تلج فيه الروح كان شيئاً ، ولم يكن مذكوراً ، فلما نفخ فيه الروح وبلغ إلى ساقه كاد ينهض للقيام ، فلما بلغ عينيه ورأى ثمار الجنة بادر اليها ليأخذها فلذلك قال الله تعالى { خلق الإنسان من عجل } وقال غيره : هو واقع على كل إنسان ، والانسان في اللغة حيوان على صورة الانسانية ، وقد تكون الصورة الانسانية ، ولا إنسان ، وقد يكون حيوان ولا إنسان ، فاذا حصل المعنيان صح إنسان لا محالة . والانسان حيوان منتصب القامة على صورة تنفصل من كل بهيمة . و ( الحين ) مدة من الزمان ، وقد يقع على القليل والكثير . قال الله سبحانه { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } أي وقت تمسون ووقت تصبحون . وقال { تؤتي أكلها كل حين } يعني كل ستة أشهر ، وقال قوم : كل سنة . وقال - ها هنا { هل أتى على الإنسان حين } أي مدة طويلة . والدهر مرور الليل والنهار وجمعه أدهر ودهور ، والفرق بين الدهر والوقت أن الوقت مضمن بجعل جاعل ، لان الله جعل لكل صلاة مفروضة وقتاً ، وجعل للصيام وقتاً معيناً ، وقد يجعل الانسان لنفسه وقتاً يدرس فيه ما يحتاج إلى درسه ووقتاً مخصوصاً لغذائه . وقوله { لم يكن شيئاً مذكوراً } أي لم يكن ممن ذكره ذاكر ، لأنه كان معدوماً غير موجود ، وفي الآية دلالة على أن المعدوم لا يسمى شيئاً ، وإنما سمى زلزلة الساعة شيئاً مجازاً . والمعنى إنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً . وقوله { إنا خلقنا الإنسان من نطفة } اخبار من الله تعالى أنه خلق الانسان سوى آدم وحواء من نطفة ، وهو ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منهما الولد ، فالنطفة الماء القليل في أناء كان او غير إناء قال الشاعر : @ وما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدّر صار صفواً غديرها @@ وقوله { أمشاج } قال ابن عباس أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة . وقال الحسن والربيع بن أنس ومجاهد مثل ذلك . وقال قتادة : معنى أمشاج أطوار طوراً نطفة وطوراً مضغة وطوراً عظماً إلى أن صار إنساناً ليختبره بهذه الصفات . وقال مجاهد : معناه ألوان النطفة . وقال عبد الله : عروق النطفة وواحد الامشاج مشيج ، وهو الخلط ، وسمى النطفة بذلك ، لأنه جعل فيها اخلاطاً من الطبائع التي تكون في الانسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة . ثم عداها له ، ثم بناه البنية الحيوانية المعدلة الاخلاط . ثم جعل فيها الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله رب العالمين ، وذلك قوله { فجعلناه سميعاً بصيراً } . وقوله { نبتليه } أي نختبره بما نكلفه من الافعال الشاقة لننظر ما طاعته وما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك ، ويقال مشجت هذا بهذا إذا خلطته به ، وهو ممشوج به ومشيج أي مخلوط به قال رؤبة : @ يطرحن كل معجل نشاج لم تكس جلداً فى دم أمشاج @@ وقال ابو ذؤيب : @ كأن الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج @@ وقوله { إنا هديناه السبيل } معناه انا أرشدناه إلى سبيل الحق وبيناه له ودللناه عليه . وقال الفراء : معناه هديناه إلى السبيل أو للسبيل . والمعنى واحد . وقوله { إما شاكراً وإما كفوراً } قال الفراء : معناه إن شكر وإن كفر على الجزاء ويجوز أن يكون مثل قوله { إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } والمعنى اما يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحق ، واما أن يكفر نعمه ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب ، وليس المعنى انه مخير فى ذلك ، وإنما خرج ذلك مخرج التهديد ، كما قال { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } بدلالة قوله { إنا أعتدنا للظالمين ناراً } وإنما المراد البيان عن انه قادر عليهما فايهما اختار جوزي بحسبه . وفي الآية دلالة على انه تعالى قد هدى جميع خلقه المكلفين ، لأن قوله { إنا هديناه السبيل } عام في جملتهم وذلك يبطل قول المجبرة : إن الله لم يهد الكافر بنصب الدلالة له على طريق الحق واجتناب الباطل ، وليس كل من ترك الشكر كان كافراً ، لانه قد يترك فى بعض الاحوال على سبيل التطوع ، لان الشكر قد يكون تطوعاً كما يكون واجباً ، وإنما لم يذكر الله الفاسق ، لانه اقتصر على اعظم الحالين وألحق الأدون على التبع ، ويجوز أن يدخل فى الجملة ، ولا يفرد ، فليس للخوارج أن يتعلقوا بذلك فى انه ليس بين الكفر والايمان واسطة . ثم بين انه تعالى إنما ذكره على وجه التهديد بقوله { إنا أعتدنا للكافرين } أي ادخرنا لهم جزاء على كفرهم ومعاصيهم وعقوبة لهم { سلاسل وأغلالا وسعيراً } يعذبهم بها ويعاقبهم فيها ، والسلاسل جمع سلسلة والاغلال جمع غل ، والسعير هي النار المسعرة الملهبة . ولما اخبر بما للكافرين من العقوبات على كفرهم ، ذكر ايضاً ما للمؤمنين على إيمانهم فقال { إن الأبرار } وهو جمع البر ، وهو المطيع لله المحسن فى أفعاله { يشربون من كأس } والكاس اناء الشراب إذا كان فيه ، ولا يسمى كأساً إذا لم يكن فيه شراب - ذكره الزجاج - قال الشاعر : @ صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا @@ وقوله { كان مزاجها كافوراً } قيل ما يشم من ريحها لا من جهة طعمها . وقوله { عيناً يشرب بها عباد الله } قوله { عيناً } نصب على البدل من { كافوراً } ويجوز أن يكون على تقدير ويشربون عيناً ، ويجوز أن يكون نصباً على الحال من { مزاجها } وقال الزجاج : معناه من عين . وقال الفراء : شربها وشرب منها سواء فى المعنى كما يقولون : تكلمت بكلام حسن وكلاماً حسناً . وقيل : يمزج بالكافور ، ويختم بالمسك وقيل : تقديره يشربون بها وأنشد الفراء : @ شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج @@ متى لجج . أي من لجج . وعين الماء حفيرة في الأرض ينبع منها ، وهذه العين المذكورة فى أرض الجنة في كونها فوارة بالماء متعة لاهلها . ثم يفجر فيجري لهم إلى حيث شاؤا منها . قال مجاهد : معناه إنهم يقودونها حيث شاؤا والتفجير تشقيق الأرض بجري الماء ومنه انفجار الصبح ، وهو انشقاقه من الضوء ، ومنه الفجور ، وهو الخروج من شق الالتئام إلى الفساد . وعباد الله المراد به المؤمنون المستحقون للثواب . ثم وصف هؤلاء المؤمنين فقال { يوفون بالنذر ويخافون } ويجوز أن يكون ذلك في موضع الحال ، فكأنه قال يشرب بها عباد الله الموفون بالنذر الخائفون { يوماً كان شره مستطيراً } فالمستطير الظاهر . والتقدير القائلون إنما نطعمكم القائلون إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً فمطريراً ، ويجوز ان يكون على الاستئناف ، وتقديره هم الذين يوفون بالنذر وكذلك في ما بعد ، فالوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه فالوفاء إمضاء العقد على الأمر الذي يدعو اليه العقل ، ومنه قوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } أي الصحيحة ، لانه لا يلزم أحداً أن يفي بعقد فاسد ، وكل عقد صحيح يجب الوفاء به ، يقال أوفى بالعقد ، ووفى به ، فأوفى لغة أهل الحجاز وهي لغة القرآن ، و ( وفى ) لغة أهل تميم واهل نجد ، وقد بينا فيما مضى شواهده . والنذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف ألا يقع ، نذر ينذر نذراً فهو ناذر ، وقال عنترة : @ الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي @@ أي يقولان : لئن لقينا عنترة لنقتلنه ، ومنه الانذار وهو الاعلام بموضع المخافة ليعقد على التحرز منها . وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال " لا نذر في معصية " وعند الفقهاء إن كفارة النذر مثل كفارة اليمين . والذي رواه أصحابنا إن كفارة النذر مثل كفارة الظهار ، فان لم يقدر عليه كان عليه كفارة اليمين . والمعنى انه إذا فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث . وقوله { ويخافون يوماً } من صفة المؤمنين { كان شره مستطيراً } أي منتشراً فاشياً ذاهباً فى الجهات بلغ أقصى المبالغ ، قال الاعشى : @ فبانت وقد أورثت فى الفؤا د صدعاً على نأيها مستطيرا @@ والمراد بالشر - ها هنا - أهوال القيامة وشدائدها . وقوله { ويطعمون الطعام على حبه } قال مجاهد : معناه على شهوتهم له ، ويحتمل أن يكون المراد على محبتهم لله { مسكيناً } أي يطعمونه فقيراً { ويتيماً } وهو الذي لا والد له من الاطفال { وأسيراً } والاسير هو المأخوذ من أهل دار الحرب - فى قول قتادة - وقال مجاهد : وهو المحبوس . وقوله { إنما نطعمكم لوجه الله } اخبار عما يقوله المؤمنون بأنا إنما نطعمكم معاشر الفقراء واليتامى والاسرى لوجه الله ، ومعناه لله ، وذكر الوجه لذكره بأشرف الذكر تعظيماً له ، ومنه قوله { فأينما تولوا فثم وجه الله } وقيل : معناه فثم جهة الله التي ولاكم اليها ومنه قوله { ويبقى وجه ربك } أي ويبقى الله . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : علم الله ما في قلوبهم فأثنى عليهم من غير أن يتكلموا به { لا نريد منكم جزاء } أي لا نطلب بهذا الاطعام مكافأة عاجلة { ولا شكوراً } أي لا نطلب أن تشكرونا عليه عند الخلائق بل فعلناه لله { إنا نخاف من ربنا } أي من عقابه { يوماً عبوساً } أي مكفهراً عابساً { قمطريراً } أي شديداً ، والقمطرير الشديد فى الشر . وقد اقمطر اليوم اقمطراراً ، وذلك أشد الايام وأطوله فى البلاء والشر ، ويوم قمطرير وقماطير كأنه قد التف شر بعضه على بعض ، قال الشاعر : @ بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر @@ وقد روت الخاصة والعامة أن هذه الآيات نزلت فى علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، فانهم آثروا المسكين واليتيم والاسير ثلاث ليال على إفطارهم وطووا عليهم السلام ، ولم يفطروا على شيء من الطعام فأثنى الله عليهم هذا الثناء الحسن ، وأنزل فيهم هذه السورة وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى الى يوم القيامة ، وهذا يدل على أن السورة مدنية .