Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 21-31)
Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ { عاليهم } باسكان الياء أهل المدينة وحمزة وعاصم - فى رواية حفص وأبان والمفضل - جعلوه اسماً لا ظرفاً كما تقول : فوقك واسع ومنزلك باب البرد ، بأن يجعل الباب هو المنزل ، وكذلك يجعل الثياب هي العالي . الباقون بالنصب على الظرف ، لانه ظرف مكان . وهو الاحسن ، لان الثاني غير الأول . وإنما يجوز فى مثل ما كان آخر الكلام هو الأول كقولهم : أمامك صدرك ، وفوقك رأسك ، فان قلت فوقك السقف وأمامك الأسد بالنصب لا غير . وقرأ نافع وحفص عن عاصم { خضر واستبرق } بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بالجر فيهما . وقرأ ابن كثير وعاصم - فى رواية أبي بكر { خضر } جراً { واستبرق } رفعاً . وقرأ ابن عامر وابو عمرو { خضر } رفعاً و { استبرق } جراً ، من رفعهما جعل { خضر } نعتاً للثياب ، وعطف عليه { واستبرق } ومن جرهما جعل { خضر } من نعت { سندس } وعطف عليه { استبرق } وتقديره عاليهم ثياب استبرق . ومن رفع الأول جعله من نعت الثياب وجر الثاني على انه عطف على { سندس } كأن عليهم ثياب سندس . ومن جعل { خضر } نعتاً لـ { سندس } ، فلانه اسم جنس يقع على الجميع ، فلذلك قال { خضر } ومن جعله نعتاً للثياب فعلى اللفظ . وقرأ ابن كثير وابو عمرو { وما يشاؤن } بالياء على الخبر عن الغائب . الباقون بالتاء على الخطاب . لما قال الله تعالى على وجه التعظيم لشأن المؤمنين الذين وصفهم وعظم ما اعطوا من أنواع النعيم والولدان وأنواع الشراب وغير ذلك مما وصف ، ووصف ذلك بأنه ملك كبير قال { عاليهم } وقيل معناه عالي حجالهم السندس . وفى نصب { عاليهم } قولان : قال الفراء : هو نصب على الظرف كقولك : فوقهم ، وحكى إن العرب تقول : قومك داخل الدار . وانكر الزجاج ذلك ، وقال نصبه لا يجوز إلا على الحال من الضمير فى { عاليهم } أو من ضمير الولدان في { رأيتهم } وإنما أنكر ذلك لأنه ليس باسم مكان كقولك هو خارج الدار وداخل الدار ، وهذا لا يجوز على الظرف عند سيبويه ، وما حكاه الفراء شاذ لا يعول عليه . ومن أسكن الياء أراد رفعه على الابتداء وخبره { ثياب سندس } والسندس الديباج الرقيق الفاخر الحسن وهو ( فعلل ) مثل برثن . وقوله { خضر } فمن جر جعله صفة لـ { سندس } خضر ووصف { سندس } بخضر وهو لفظ جمع ، لان سندساً اسم جنس يقع على الكثير والقليل . ومن رفعه جعله نعتاً لـ { ثياب } كأنه قال : ثياب خضر من سندس . وقوله " واستبرق " من رفعه عطفه على " ثياب سندس " فكأنه قال عاليهم ثياب سندس ، وعاليهم استبرق . ومن جره عطفه على " سندس " فكأنه قال : عاليهم ثياب سندس وثياب استبرق . والاستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق ، فهم يتصرفون فى فاخر اللباس كما يتصرفون فى لذيذ الطعام والشراب . وقيل الاستبرق له غلظ الصفاقة لا غلظ السلك كغلظ الديبقي ، وإن كان رقيق السلك . وقوله { وحلوا أساور من فضة } فالتحلية الزينة بما كان من الذهب والفضة والتحلية تكون للانسان وغير الانسان كحلية السيف وحلية المركب والفضاضة الشفافة هي التي يرى ما وراءها كما يرى البلورة ، وهي أفضل من الدرّ والياقوت ، وهما افضل من الذهب فتلك الفضة افضل من الذهب ، والفضة والذهب فى الدنيا هما أثمن الاشياء ، وإن كان قد ثمن بغيرهما شاذاً . وقيل : يحلون الذهب تارة وتارة الفضة ليجمعوا محاسن الحلية ، كماقال تعالى { يحلون فيها من أساور من ذهب } والفضة وإن كانت دنية فى الدنيا ، فهي فى غاية الحسن خاصة إذا كانت بالصفة التي ذكرها والغرض فى الآخرة ما يكثر الالتذاذ والسرور به لا باكثر الثمن ، لانه ليست هناك أثمان . وفى الناس من ترك صرف { استبرق } وهو غلط ، لأن الاعجمي إذا عرب فى حال تنكيره انصرف ، ودليله الاستبرق وهما مما يحكى عن ابن محيص . وقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } قيل معناه يسقون شراباً طهوراً ليس كالذي يخالطه الانجاس من أنهار الدنيا . وإن قل ذلك وكان مغموراً . وقيل انه ليس كشراب الدنيا الذي قد نجسه الفساد الذي فيه ، وهو السكر الداعي إلى القبائح ، فقد طهره الله فى الجنة من ذلك لتخلص به اللذة ، كما قال { من خمر لذة للشاربين } وقيل : شراباً طهوراً لا ينقلب إلى البول بل يفيض من أعراضهم كرشح المسك ذكره ابراهيم التيمي . وقوله { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً } اخبار من الله تعالى انه يقال للمؤمنين إذا فعل بهم ما تقدم من انواع اللذات وفنون الثواب : إن هذا كان لكم جزاء على طاعاتكم واجتناب معاصيكم فى دار التكليف ، وإن سعيكم فى مرضات الله وقيامكم بما أمركم الله به كان مشكوراً أي جوزيتم عليه ، فكأنه شكر لكم فعلكم . ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال { إنا نحن نزلنا عليك } يا محمد { القرآن تنزيلاً } فيه شرف وتعظيم لك . ثم أمره بالصبر على ما أمره من تحمل اعباء الرسالة فقال { فاصبر } يا محمد { لحكم ربك ولا تطع منهم } يعني من قومه الذين بعث اليهم { آثماً أو كفوراً } وهو نهي عن الجمع والتفريق أي لا تطع آثماً ولا كفوراً ، كما يقول القائل : لا تفعل معصية صغيرة او كبيرة أي لا تفعلهما ولا واحدة منهما . ثم امره بان يذكر الله بما يستحقه من الصفات والاسماء الحسنى ، فقال { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } والبكرة الغداة والاصيل العشي ، وهو اصل الليل وجمعه آصال . وقوله { ومن الليل فاسجد } دخلت ( من ) للتبعيض بمعنى فاسجد له فى بعض الليل ، لانه لم يأمره بقيام جميع الليل ، كما قال { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } والسجود وضع الجبهة على الارض على وجه الخضوع وأصله الانخفاض كما قال الشاعر : @ ترى الاكم فيها سجداً للحوافر @@ والسجود من العبادة التي اكد الله الأمر بها لما فيها من صلاح العباد . ثم قال { وسبحه ليلاً طويلاً } أي نزهه عما لا يليق به فى الليل الطويل . ثم قال { إن هؤلاء } يعني الكفار والذين يجحدون نبوتك { يحبون العاجلة } أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة فى دار الدنيا من إرتكاب شهواتهم . والعاجلة المقدمة قبل الكرة الثانية { ويذرون } أي ويتركون { وراءهم } أي خلفهم { يوماً ثقيلاً } أي هو ثقيل على اهل النار أمره ، وإن خف على اهل الجنة للبشارة التي لهم فيه . والثقيل ما فيه اعتمادات لازمة إلى جهة السفل على جهة يشق حمله . وقد يكون ثقيلا على انسان خفيفاً على غيره بحسب قدرته ، فيوم القيامة مشبه بهذا . وقيل : معنى { وراءهم } أي خلف ظهورهم العمل للاخرة . وقيل { وراءهم } أمامهم الآخرة ، وكلاهما محتمل ، والاول أظهر . ثم قال تعالى { نحن خلقناهم } أي نحن الذين اخترعنا هؤلاء الخلائق { وشددنا أسرهم } قال ابن عباس الأسر الخلق ، وهو من قولهم : أسر هذا الرجل فأحسن اسره أي خلق فأحسن خلقه أي شد بعضه إلى بعض أحسن الشد ، وقال ابو هريرة : الاسر المفاصل . وقال ابن زيد : الاسر القوة . وقولهم : خذ بأسره أي بشده قبل ان يحل ، ثم كثر حتى جاء بمعنى خذ جميعه قال الاخطل : @ من كل مجتلب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا @@ واصل الاسر الشد ، ومنه قتب مأسور أي مشدود ، ومنه الاسير ، لانهم كانوا يشدونه بالقيد ، وجاء فى التفسير وشددنا مفاصلهم . ثم قال { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } معناه إذا شئنا أهلكنا هؤلاء وأمثالهم وجئنا بقوم آخرين بدلهم نخلفهم ونوجدهم . وقوله { إن هذه تذكرة } قال قتادة : معناه إن هذه السورة تذكرة ، والتذكرة دلالة تخص بها المعاني الحكمية ، وكل موعظة تدعو إلى مكارم الاخلاق ومحاسن الافعال تذكرة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } أي اتخذ إلى رضا ربه طريقاً بأن يعمل بطاعته وينتهي عن معصيته ، وذلك يدل على انه قادر على ذلك قبل ان يفعله بخلاف ما يقوله المجبرة . وقوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } أي وليس تشاؤن شيئاً من العمل بطاعته وبما يرضاه ويوصلكم الى ثوابه إلا والله يشاؤه ويريده لأنه يريد من عباده أن يطيعوه ، وليس المراد أن يشاء كل ما يشاؤه العبد من المعاصي والمباحات ، لان الحكيم لا يجوز أن يريد القبائح ولا المباح ، لان ذلك صفة نقص ويتعالى الله عن ذلك . وقد قال الله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } والمعصية والكفر من اعظم العسر فكيف يكون الله تعالى مشيئاً له وهل ذلك إلا تناقض ظاهر ؟ ! وقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } اخبار بأنه - عز وجل - كان عالماً بجميع المعلومات وبما يفعله عباده من الطاعة والمعصية { حكيماً } فى جميع ما يفعله ويأمر به . ثم قال { يدخل من يشاء في رحمته } من الجنة وثوابها اذا أطاعوه في عمل ما رغبهم فيه { والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً } نصب { الظالمين } على تقدير وعاقب الظالمين باعداد العذاب الأليم أي أعد للظالمين اعد لهم ، وحذف لدلالة الثاني عليه ولا يظهر ذلك ، لان تفسيره يغني عن إظهاره .