Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 104-106)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات ، أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً لقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } [ النحل : 120 ] ولقوله : { وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 79 ] ولقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 2 ] والمعنى : أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أموراً . فالقيد الأول : قوله : { فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح ، وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام ، وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالاً منها ، وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس . القيد الثاني : قوله : { وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ } والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله ، بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله . فإن قيل : ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله : { ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم } . قلنا فيه وجوه الأول : يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي . الثاني : أن الموت أشد الأشياء مهابة ، فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ، ليكون أقوى في الزجر والردع . الثالث : أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَٱنْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ يونس : 102 ، 103 ] فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول : أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي . والقيد الثالث : من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة ، وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة ، فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة . والقيد الرابع : قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } وفيه مسائل : المسألة الأولى : الواو في قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان : الأول : أن قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ } قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } الثاني : أن قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } قائم مقام قوله : { وَأُمِرْتُ } بإقامة الوجه ، فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفاً . المسألة الثانية : إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين ، لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء ، فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير ، لأنه لو صرفه عنه ، ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت تلك المقابلة ، فقد اختل الأبصار ، فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين ، وقوله : { حَنِيفاً } أي مائلاً إليه ميلاً كلياً معرضاً عما سواه إعراضاً كلياً ، وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام ، وترك الالتفات إلى غيره ، فقوله أولاً : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان ، وقوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه . والقيد الخامس : قوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } . واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهياً عن عبادة الأوثان ، لأن ذلك صار مذكوراً بقوله تعالى في هذه الآية : { فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه ، فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي . والقيد السادس : قوله تعالى : { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق ، وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق ، وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق ، فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك ، فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله . ثم قال في آخر الآية : { فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين ، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرف ، كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً . فإن قيل : فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص ؟ قلنا : لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه ، وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافياً للرجوع بالكلية إلى الله ، إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق ، فحينئذ يرى ما سوى الحق عدماً محضاً بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عالياً علي الكل .