Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 19-19)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام ، بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد ، والمقالة الباطلة ، فقال : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } واعلم أن ظاهر قوله : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } لا يدل على أنهم أمة واحدة فيماذا ؟ وفيه ثلاثة أقوال : القول الأول : أنهم كانوا جميعاً على الدين الحق ، وهو دين الإسلام ، واحتجوا عليه بأمور : الأول : أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلاً ، وتزييف طريق عبادة الأصنام ، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل ، فوجب أن يكون المراد من قوله : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً } هو أنهم كانوا أمة واحدة ، إما في الإسلام وإما في الكفر ، ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر . فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام ، إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه : الأول : قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وشهيد الله لا بد وأن يكون مؤمناً عدلاً . فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن . الثاني : أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى ، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون . الثالث : أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية ، فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب " " وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر ؟ وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان ، وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر ، ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان ، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك ؟ فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده ، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثاني ، وقال قوم : إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح ، وكانوا عشرة قرون . ثم اختلفوا على عهد نوح . فبعث الله تعالى إليهم نوحاً . وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق ، إلى أن ظهر الكفر فيهم . وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي ، وهذا القائل قال : المراد من الناس في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } فاختلفوا العرب خاصة . إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول : إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل الذي قررناه ، بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهباً للعرب من أول الأمر ، بل كانوا على دين الإسلام ، ونفي عبادة الأصنام . ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم ، والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصلياً فيهم ، وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن ، لم يتعصبوا لنصرته ، ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب ، ولم تنفر طباعهم من إبطاله . ومما يقوي هذا القول وجهان : الأول : أنه تعالى قال : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ثم بالغ في إبطاله بالدليل . ثم قال عقيبه : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلاً فيهم من الزمان القديم ، لم يصح جعل هذا الكلام دليلاً على إبطال تلك المقالة . أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين ، وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان ، أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة ، وفي تقبيح صورتها عندهم ، فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلاً لهذا الغرض . الثاني : أنه تعالى قال : { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } ولا شك أن هذا وعيد ، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى ، والأقرب هو ذكر الاختلاف ، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف ، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يقال : كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر ، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان ، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سبباً لحصول الوعيد . أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر ، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سبباً للوعيد . القول الثاني : قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر ، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين . قالوا : وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام ، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيباً لك ، قابلاً لدينك . فإن الناس كلهم كانوا على الكفر ، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك ، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان ؟ القول الثالث : قول من يقول : المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام ، ثم اختلفوا في الأديان . وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : " " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية ، وحاصلها يرجع إلى أمرين : التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الأنعام : 151 ] واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة ، فلنكتف بهذا القدر ههنا . أما قوله تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي ؟ وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده ، وإن كانوا به كافرين ، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم ، لكن لما كان ذلك سبباً لزوال التكليف ، ويوجب الإلجاء ، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح ، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة . ثم قال هذا القائل ، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين . الثاني : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاماً عليهم ، لقضى بينهم في اختلافهم ، بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء الثالث : أن تلك الكلمة هي قوله : « سبقت رحمتي غضبي » فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان .