Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 61-61)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار ، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم ، وفي أمره بتحمل أذاهم ، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين ، وتمام الخوف والفزع للمذنبين ، وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد ، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف ، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى ، ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين . المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين ، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد ، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام . فالأول : منهما قوله : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } واعلم أن { مَا } ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن ، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله ، قال الأخفش : وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله ، وفيه وجهان : قال ابن عباس : وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن : في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها . والثاني : منهما قوله تعالى : { وَمَا نتلوا منه من قرآن } واختلفوا في أن الضمير في قوله : { مِنْهُ } إلى ماذا يعود ؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو معظم شأنه ، وعلى هذا التقدير ، فكان هذا داخلاً تحت قوله : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته ، كما في قوله تعالى : { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } [ البقرة : 98 ] وكما في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرٰهِيمَ } [ الأحزاب : 7 ] والثاني : أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير : وما تتلو من القرآن من قرآن ، وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع ، فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر ، يدل على التعظيم . الثالث : أن يكون التقدير : وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله . وأقول : قوله : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ } أمران مخصوصان بالرسول صلى الله عليه وسلم . وأما قوله : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة . والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً ، ثم عمم الخطاب مع الكل ، هو أن قوله : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ } وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول ، إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه ، لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب . والدليل عليه قوله تعالى : { يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء } [ الطلاق : 1 ] ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين . ثم قال تعالى : { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء ، وعالم بكل شيء ، أما على أصول أهل السنة والجماعة ، فالأمر فيه ظاهر ، لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى . فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة ، فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه . والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به ، فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، وأما على أصول المعتزلة ، فقد قالوا : إنه تعالى حي وكل من كان حياً ، فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات ، والموجب لتلك العالمية ، هو ذاته سبحانه . فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات ، فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات . أما قوله تعالى : { إِذْ تفيضون فِيهِ } فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل ، يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه ، وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم ، فتفرقوا . فإن قيل : { إِذْ } ههنا بمعنى حين ، فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه ، وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه ، فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل . قلنا : هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبارة عن علمه ، وهذا ممنوع ، فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه ، وأما العلم ، فلا يمتنع تقدمه على الشيء ، والدليل عليه أن الرسول عليه السلام ، لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها . واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء ، ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد ، فقال : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كتاب مبين } وفيه مسائل : المسألة الأولى : أصل العزوب من البعد . يقال : كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب ، وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل ، والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل ، وعزب الشيء عن علمي إذا بعد . المسألة الثانية : قرأ الكسائي { وَمَا يَعْزُبُ } بكسر الزاي ، والباقون بالضم ، وفيه لغتان : عزب يعزب ، وعزب يعزب . المسألة الثالثة : قوله : { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي وزن ذرة ، ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل ، والمعنى : ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة ، وهي تكون خفيفة الوزن جداً ، وقوله : { فِي ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } فالمعنى ظاهر . فإن قيل : لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ : { عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلاْرْضِ } [ سبأ : 3 ] . قلنا : حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ، ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه ، ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع . ثم قال : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } وفيه قراءتان قرأ حمزة { وَلاَ أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ } بالرفع فيهما ، والباقون بالنصب . واعلم أن قوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ { مِثْقَالَ } عند دخول كلمة { مِنْ } عليه مجرور بحسب الظاهر ، ولكنه مرفوع في المعنى ، فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف ، فكان مفتوحاً / وإن عطف على المحل ، وجب كونه مرفوعاً ، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل ، وكذا قوله : { مَالَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] وغيره وقال الشاعر : @ فلسنا بالجبال ولا الحديدا @@ هذا ما ذكره النحويون ، قال صاحب « الكشاف » : لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب : وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل . وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين : الوجه الأول : أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد . وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المخلوقة على قسمين : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول ، مثل : الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها ، والغرض منه الرد على من يقول : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات ، وهو المراد من قوله : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . والوجه الثاني : في الجواب أن نجعل كلمة { إِلا } في قوله : { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين ، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب « النظم » عنه جواباً آخر فقال : قوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر ، وهو قوله : { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } أي وهو أيضاً في كتاب مبين . قال : والعرب تضع « إلا » موضع « واو النسق » كثيراً على معنى الابتداء ، كقوله تعالى : { لاَ يَخَافُ لَدَىَّ ٱلْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ } [ النمل : 10 ] يعني ومن ظلم . وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ البقرة : 150 ] يعني والذين ظلموا ، وهذا الوجه في غاية التعسف . وأجاب صاحب « الكشاف » : بوجه رابع فقال : الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ } على قوله : { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل ، لكنا لا نقول ذلك ، بل نقول : الوجه في القراءة بالنصب في قوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ } الحمل على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء ، وخبره قوله : { فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } وهذا الوجه اختيار الزجاج .