Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 7-8)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها ، وفي شرح أحوال من يؤمن بها . فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية . واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة : الصفة الأولى : قوله : { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وفيه مسائل : المسألة الأولى : في تفسير هذا الرجاء قولان : القول الأول : وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه : لا يخافون البعث ، والمعنى : أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها . والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا } [ النازعات : 45 ] وقوله : { وَهُمْ مّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 49 ] وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] قال الهذلي : @ إذا لسعته النحل لم يرج لسعها @@ والقول الثاني : تفسير الرجاء بالطمع ، فقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } أي لا يطمعون في ثوابنا ، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس ، كما قال : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلاْخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّـٰرُ } [ الممتحنة : 13 ] واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد ، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة ، والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه ، وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته . فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات ، فالعاقل كيف لا يرجوه ، وكيف لا يتمناه ؟ وإن كان الثاني فكذلك ، لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته ، وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه ، وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء ، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر . المسألة الثانية : اللقاء هو الوصول إلى الشيء ، وهذا في حق الله تعالى محال ، لكونه منزهاً عن الحد والنهاية ، فوجب أن يجعل مجازاً عن الرؤية ، وهذا مجاز ظاهر . فإنه يقال : لقيت فلاناً إذا رأيته ، وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل . واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوى لمعانها ، وذلك هو الرؤية ، وهي من أعظم السعادات . فمن كان غافلاً عن طلبها معرضاً عنها مكتفياً بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين . الصفة الثانية : من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى : { وَرَضُواْ بِٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا } . واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية ، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها . والصفة الثالثة : قوله تعالى : { وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى : { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 35 ] ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى : { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا ، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية : { وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا } فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل ، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى . المسألة الثانية : مقتضى اللغة أن يقال : واطمأنوا إليها ، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض ، فلهذا السبب قال : { وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا } . والصفة الرابعة : قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ } والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى . بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء ، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية ، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية . واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال : { أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق ، صاعداً بالطبع ، والإقرار به واجب ، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق . القسم الثاني : النار الروحانية العقلية ، وتقريره أن من أحب شيئاً حباً شديداً ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه ، فإنه يحترق قلبه وباطنه ، وكل عاقل يقول : إن فلاناً محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب . وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة . إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات ، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته ، وهي أحوال هذا العالم ، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم ، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ، ولا معرفة له بأحوالها ، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة ، وتألم الروح فكذا هنا ، أما لو كان نفوراً عن هذه الجسمانيات عارفاً بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى ، عظيم الحب لله ، كان مثاله مثال من كان محبوساً في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء ، كما قال تعالى { فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية . المسألة الثانية : الباء في قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلعَبِيدِ } [ الحج : 10 ]