Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 90-92)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن تفسير اللفظ في قوله : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْبَحْرَ } [ الأعراف : 138 ] مذكور في سورة الأعراف ، والمعنى : أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه ، وفرعون كان غافلاً عن ذلك ، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله : { فَأَتْبَعَهُمْ } أي لحقهم يقال : أتبعه حتى لحقه ، وقوله : { بَغْيًا وَعَدْوًا } البغي طلب الاستعلاء بغير حق ، والعدو الظلم ، روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم ، فوقعوا في خوف شديد ، لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك ، فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقاً في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور ، ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور ، فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق ، فهو معنى قوله : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم ، والعدو وهوتجاوز الحد ، ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظناً منه أنه ينجيه من تلك الآفة ، وههنا سؤالان : السؤال الأول : أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك ؟ والجواب : من وجهين : الأول : أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان ، فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس ، لا بكلام اللسان ، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام ، وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان ، فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب . الثاني : أن يكون المراد من الغرق مقدماته . السؤال الثاني : أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله : { ءامَنتُ } وثانيها قوله : { لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ } وثالثها قوله : { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال : إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار ؟ والجواب : العلماء ذكروا فيه وجوهاً : الوجه الأول : أنه إنما آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء ، وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة ، ولهذا السبب قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . الوجه الثاني : هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة ، فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية ، وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقروناً بالإخلاص ، فلهذا السبب ما كان مقبولاً . الوجه الثالث : هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد ، ألا ترى أنه قال : { لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ } فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله ، إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً ، فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده ، فكان هذا محض التقليد ، فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه ، ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة طه كان من الدهرية ، وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته ، إلا بنور الحجج القطعية ، والدلائل اليقينية ، وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد ، لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق . الوجه الرابع : رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل ، فلما قال فرعون { آمنتُ أَنَّهُ لا إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِى آمنتْ بِهِ بَنواْ إِسْرٰءيلَ } انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر . الوجه الخامس : أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه ، فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول ، وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون . الوجه السادس : لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى ، والإقرار بنبوة موسى عليه السلام . فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه . ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله ، فكذا ههنا . الوجه السابع : روى صاحب « الكشاف » أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته ، فكفر نعمته وجحد حقه ، وادعى السيادة دونه ، فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه . أما قوله تعالى : { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } ففيه سؤالات : السؤال الأول : من القائل له { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } . الجواب : الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل ، وإنما ذكر قوله : { وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } في مقابلة قوله : { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } ومن الناس من قال : إن قائل هذا القول هو الله تعالى ، لأنه ذكر بعده { فَٱلْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } إلى قوله : { إن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى . السؤال الثاني : ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق ، وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة . والجواب : مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلاً ، وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية . وأيضاً فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة ، بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين . السؤال الثالث : هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه . والجواب : الأقرب أنه لا يصح ، لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتاً أو ما كان ثابتاً ، فإن كان ثابتاً لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة ، بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة ، لقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة ، لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة ، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرضا بالكفر كفر ، وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان ، ولو قيل : إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى ، فهذا يبطله قول جبريل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى في صفتهم : { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] وأما إن قيل : إن التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلاً . ثم قال تعالى : { فَٱلْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } وفيه وجوه : الأول : { نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع . الثاني : نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ، ولكن بعد أن تغرق . وقوله : { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال ، أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك . الثالث : أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم ، كما في قوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ، ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال : نعتقك ولكن بعد الموت ، ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت . الرابع : قرأ بعضهم { نُنَجّيكَ } بالحاء المهملة ، أي نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر . قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور . وأما قوله : { بِبَدَنِكَ } ففيه وجوه : الأول : ما ذكرنا أنه في موضع الحال ، أي في الحال التي كنت بدناً محضاً من غير روح . الثاني : المراد ننجيك ببدنك كاملاً سوياً لم تتغير . الثالث : { نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } أي نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس . الرابع : { نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } أي بدرعك ، قال الليث : البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين ، فقوله : { بِبَدَنِكَ } أي بدرعك ، وهذا منقول عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها ، فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف . أقول : إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام . وأما قوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } ففيه وجوه : الأول : أن قوماً ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت ، فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم . وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل . الثاني : لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زجراً للخلق عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون . الثالث : قرأ بعضهم { لِمَنْ خَلَقَكَ } بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . الرابع : أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قعر البحر ، بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالاً على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة . وأما قوله : { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمداً عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجراً لأمته عن الإعراض عن الدلائل ، وباعثاً لهم على التأمل فيها والاعتبار بها ، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ } [ يوسف : 111 ] .