Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 109, Ayat: 2-5)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ففيه مسائل : المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : أحدهما : أنه لا تكرار فيها والثاني : أن فيها تكراراً أما الأول : فتقريره من وجوه أحدها : أن الأول للمستقبل ، والثاني للحال والدليل على أن الأول للمستقبل أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، أن ترى أن لن تأكيد فيما ينفيه لا ، وقال الخليل في لن أصله لا أن ، إذا ثبت هذا فقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أي لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ، ثم قال : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين لمعبودي الوجه الثاني : أن تقلب الأمر فتجعل الأول للحال والثاني للاستقبال والدليل على أن قول : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } للاستقبال أنه رفع لمفهوم قولنا : أنا عابد ما عبدتم ولا شك أن هذا للاستقبال بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيداً فهم منه الاستقبال الوجه الثالث : قال بعضهم : كل واحد منهما يصلح للحال وللاستقبال ، ولكنا نخص إحداها بالحال ، والثاني بالاستقبال دفعاً للتكرار ، فإن قلنا : إنه أخبر عن الحال ، ثم عن الاستقبال ، فهو الترتيب ، وإن قلنا : أخبر أولاً عن الاستقبال ، فلأنه هو الذي دعوه إليه ، فهو الأهم فبدأ به ، فإن قيل : ما فائدة الإخبار عن الحال وكان معلوماً أنه ما كان يعبد الصنم ، وأما الكفار فكانوا يعبدون الله في بعض الأحوال ؟ قلنا : أما الحكاية عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه يعبدها سراً خوفاً منها أو طمعاً إليها وأما نفيه عبادتهم . فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلاً : الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي ، فكأنه قال : لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله ، وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين ، فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي ، كان ذلك باطلاً لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم ، فهو منهي عنه ، وغير مأمور به الوجه الخامس : أن تحمل الأولى على نفي الاعتبار الذي ذكروه ، والثانية على النفي العام المتناول لجميع الجهات فكأنه أولاً قال : لا أعبد ما تعبدون ررجاء أن تعبدوا الله ، ولا أنتم تعبدون الله رجاء أن أعبد أصنامكم ، ثم قال : ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض ، ومقصود من المقاصد ألبتة بوجه من الوجوه : و لا أنتم عابدون ما أعبد بوجه من الوجوه ، واعتبار من الاعتبارات ، ومثاله من يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعيم ، فيقول : لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم أصلا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض القول الثاني : وهو أن نسلم حصول التكرار ، وعلى هذا القول العذر عنه من ثلاثة أوجه الأول : أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير أحسن ، ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع ، لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مراراً ، وسكت رسول الله عن الجواب ، فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل ، فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال الوجه الثاني : أنه كان القرآن ينزل شيئاً بعد شيء ، وآية بعد آية جواباً عما يسألون فالمشركون قالوا : استلم بعد آلهتنا حتى نؤمن بإلهك فأنزل الله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ثم قالوا بعد مدة تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً فانزل الله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ولما كان هذا الذي ذكرناه محتملاً لم يكن التكرار على هذا الوجه مضراً ألبتة الوجه الثالث : أن الكفار ذكروا تلك الكلمة مرتين تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة . فأتى الجواب على التكرير على وفق قولهم وهو ضرب من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد يجازي بدفع تلك الكلمة على سبيل التكرار استخفافاً به واستحقاراً لقوله . المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أن كلمة : { مَا } لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال : { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أجابوا عنه من وجوه أحدها : أن المراد منه الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها : أن مصدرية في الجملتين كأنه قال : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المستقبل ، ثم قال : ثانياً لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها : أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها : أنه لما قال أولاً : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . المسألة الثالثة : احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشي فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين ، واعلم أنه بقي في الآية سؤالات : السؤال الأول : أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير ؟ الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة ، إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة ، أما القائل : بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله ، وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه ، والمبالغة في الإنكار عليه كما في هذه الآية . السؤال الثاني : أن أول السورة اشتمل على التشديد ، وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل ، وهو قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } فكيف وجه الجمع بين الأمرين ؟ الجواب : كأنه يقول : إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح ، وما قصرت فيه ، فإن لم تقبلوا قولي ، فاتركوني سواء بسواء . السؤال الثالث : لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول : لن أعبد ما تعبدون ، لأن هذا أبلغ ، ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا : { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } [ الكهف : 14 ] والجواب : المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة ، وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع ، فكيف يعبده بعد ظهور الشرع ، بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل .