Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 121-123)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار ، والترغيب والترهيب ، أتبع ذلك بأن قال للرسول : { وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة { ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه ، والمعنى : افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر ، فنحن أيضاً عاملون . وقوله : { ٱعْمَلُواْ } وإن كانت صيغته صيغة الأمر ، إلا أن المراد منها التهديد ، كقوله تعالى لإبليس : { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [ الإسراء : 64 ] وكقوله : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان . قال ابن عباس رضي الله عنهما : { وَٱنْتَظِرُواْ } الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب . ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال : { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } . واعلم أن مجموع ما يحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة . وهي : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجوداً قبله ، وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود ، وذلك هو الإله تعالى وتقدس . واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر ألبتة ، وإنما المعلوم للبشر صفاته ، ثم إن صفاته قسمان : صفات الجلال ، وصفات الإكرام . أما صفات الجلال ، فهي سلوب ، كقولنا : إنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا كذا ولا كذا . وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال ، لأن السلوب عدم ، والعدم المحض والنفي الصرف ، لا كمال فيه ، فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلاً ، ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] إنما أفاد ، الجلال والكمال والكبرياء ، لأن قوله : { وَلاَ يُطْعَمُ } يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنياً عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه ، فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية ، وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان : العلم والقدرة ، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح . أما صفة العلم فقوله : { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات ، وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وأما صفة القدرة ، فقوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } والمراد أن مرجع الكل إليه ، وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات ، كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهاراً للعدم بالوجود والتحصيل جباراً له بالقوة والفعل والتكميل ، فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه . والمرتبة الثانية : من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالماً بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا ، وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية ، وهذه المرتبة لها بداية ونهاية . أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية . أما العبادات الجسدانية ، فأفضل الحركات الصلاة ، وأكمل السكنات الصيام ، وأنفع البر الصدقة . وأما العبادة الروحانية فهي : الفكر ، والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السموات والأرض ، كما قال تعالى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [ آل عمران : 191 ] وأما نهاية هذه المرتبة ، فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها ، وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات ، وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال ، واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ، ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولاً تائهاً في ساحة كبريائه هالكاً فانياً في فناء سناء أسمائه . وحاصل الكلام : أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله ، وآخرها التوكل على الله ، فلهذا السبب قال : { فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . والمرتبة الثالثة : من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية ، وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين ، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير ، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير ، فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية ، والمقاصد القدسية ، وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب ، تمت السورة بحمد الله وعونه ، وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها تم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة ، وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفي في الغربة في عنفوان شبابه ، وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب ، فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة ، وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم .