Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 37-38)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب ، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام ، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه ، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة . الثاني : لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه ، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير ، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين ، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه ، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى ، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره ، والثالث : قال السدي : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره ، ولذلك قال : { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } الرابع : لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله : فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى ، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا ، والخامس : لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر ، ولا يستوجب العقاب الشديد { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] والسادس : قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } محمول على اليقظة ، والمعنى : أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو ، وأي لون هو ، وكم هو ، وكيف يكون عاقبته ؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم ، وفيه وجه آخر ، قيل : كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه ، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا ، هذا هو المراد من قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب ، وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام ، { وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير ، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى . فإن قيل : كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة ؟ قلنا : إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال : إنه كان قد ذكره ، وأيضاً ففي قوله : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } وفي قوله : { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءابَاءي } ما يدل على ذلك . ثم قال تعالى : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم ، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله . ثم قال : { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلاْخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : لقائل أن يقول : في قوله : { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة . فنقول جوابه من وجوه : الأول : أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه . والثاني : وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد ، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية ، ثم إنه أظهره في هذا الوقت ، فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر . المسألة الثانية : تكرير لفظ { هُمْ } في قوله : { وَهُمْ بِٱلاْخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } لبيان اختصاصهم بالكفر ، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد . واعلم أن قوله : { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } إشارة إلى علم المبدأ . وقوله : { وَهُمْ بِٱلاْخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } إشارة إلى علم المعاد ، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد ، وإن ما وراء ذلك عبث . ثم قال تعالى : { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءابَاءي إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } وفيه سؤالات : السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذا الكلام . الجواب : أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة ، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله ، فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه ، وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا ، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال ، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل . السؤال الثاني : لما كان نبياً فكيف قال : إني اتبعت ملة آبائي ، والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه . قلنا : لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير ، وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله ، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام . السؤال الثالث : لم قال : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَىْء } وحال كل المكلفين كذلك ؟ والجواب : ليس المراد بقوله : { مَا كَانَ لَنَا } أنه حرم ذلك عليهم ، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ، ونظيره قوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] . السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : { مِن شَىْء } . الجواب : أن أصناف الشرك كثيرة ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد النار ، ومنهم من يعبد الكواكب ، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة ، فقوله : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَىْء } رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق ، وإرشاد إلى الدين الحق ، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله . ثم قال : { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ } وفيه مسألة . وهي أنه قال : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَىْء } . ثم قال : { ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } فقوله : { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك ، فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله . ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه ، وفي حق الناس . ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان ، حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر ، وقال : هل تشكر الله على الإيمان أم لا . فإن قلت : لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له ، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة ، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة ، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له ، فذلك باطل ، وصعب الكلام على بشر ، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال : إنا لا نشكر الله على الإيمان ، بل الله يشكرنا عليه كما قال : { أُولـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] فقال بشر : لما صعب الكلام سهل . واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية ، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة . قال القاضي قوله : { ذٰلِكَ } إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة . والجواب : أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق ، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى ، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل ، فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد ، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك .