Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 45-48)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : في قوله : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } قولان : القول الأول : قال الجبائي وجمهور المعتزلة : القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي . قالوا : لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك . والقول الثاني : وهو قول جمهور الصحابة والتابعين ، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به . وأقول : هذا القول هو الحق الصحيح ، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضارباً وقاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى ، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى ، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية ، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقياً ، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقياً ، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار . إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد ، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم ، وأيضاً فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 40 ] وعقيب قول الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } [ الحجر : 42 ] فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر ، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر ، فثبت أن قوله : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولاً واعتقاداً سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين ، وكلام ظاهر . المسألة الثانية : قوله تعالى : { فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } أما الجنات فأربعة لقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فيكون المجموع أربعة وقوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } يؤكد ما قلناه ، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله : { وَلِمَنْ خَافَ } يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة ، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ خمرٍ لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى } [ محمد : 15 ] ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار . فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون ، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ } يحتمل أن القائل لقوله : { ٱدْخُلُوهَا } هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته ، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم : { ٱدْخُلُوهَا } . والجواب عنه من وجهين : الأول : لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ } . الثاني : لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ } المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة ، والأمن من زوالها . ثم قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ } والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم : أغل في جوفه وتغلغل ، أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم ، وعن علي عليه السلام أنه قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي : مرحباً بك يا ابن أخي ، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ } فقال الحرث : كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد . قال عليه السلام : فلمن هذه الآية ؟ لا أم لك يا أعور ، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ، ثم يؤمر بهم إلى الجنة . وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش ، والحقد والحسد ، وقوله : { إِخْوَانًا } نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال : { ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] وقوله : { عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال : سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو : سرر وسرر ، وجدد وجدد قال المفضل : بعض تميم وكلب يفتحون ، لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد ، وقال بعض أهل المعاني : السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور . قال الليث : وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية ، وقوله : { مُّتَقَـٰبِلِينَ } التقابل التواجه ، وهو نقيض التدابر ، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب : { وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء ، وكمالاً بلا نقصان ، وفوزاً بلا حرمان . واعلم أن للثواب أربع شرائط : وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة . أما القيد الأول : وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } . وأما القيد الثاني : وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ } لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال . وأما القيد الثالث : وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر ، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية ، وإما أن تكون جسمانية ، أما المضار الروحانية فهي الحقد ، والحسد ، والغل ، والغضب ، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } إشارة إلى نفي المضار الجسمانية . وأما القيد الرابع : وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله : { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال ، فإنهم قالوا : المراد من قوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ } إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال ، وقوله : { إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية ، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية ، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية ، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله : { إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } ، والله أعلم .