Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-112)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف ، كما ذكره في هذه الآية . المسألة الثانية : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها ، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة . المسألة الثالثة : ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات : الصفة الأولى : كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] والأمر في مكة كان كذلك ، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض . أما أهل مكة ، فإنهم كانوا أهل حرم الله ، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم . واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن ، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له ، والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها ، كما يقال : طيب وحار وبارد . والصفة الثانية : قوله : { مُّطْمَئِنَّةً } قال الواحدي : معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق . أقول : إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف ، فهذا هو معنى كونها آمنة ، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق ، فهذا هو معنى قوله : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ } وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار . والجواب : أن العقلاء قالوا : @ ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية @@ قوله : { ءَامِنَةً } إشارة إلى الأمن ، وقوله : { مُّطْمَئِنَّةً } إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه ، وقوله : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ } إشارة إلى الكفاية . قال المفسرون وقوله : { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ } [ إبراهيم : 37 ] ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال : وهو أن الأنعم جمع قلة ، فكان المعنى : أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله ، وكان اللائق أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب ، فما السبب في ذكر جمع القلة ؟ والجواب : المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب ، وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاء . قال المفسرون : عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد ، أما الخوف فهو أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابـي الأديب : هل يذاق اللباس ؟ قال ابن الأعرابـي : لا باس ولا لباس يا أيها النسناس ، هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية ، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع . وأقول جوابه من وجوه : الوجه الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان . أحدهما : أن المذوق هو الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع . والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات ، فأشبه اللباس . فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } . والوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار ، تقول : ناظر فلاناً وذق ما عنده . قال الشاعر : @ ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها @@ ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول : تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان . والوجه الثالث : أن يحمل لفظ اللبس على المماسة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف . ثم قال تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبـي صلى الله عليه وسلم حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله . قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير ، ومنه قوله تعالى : { فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ولم يقل قائلة ، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله ، فكل هذه الصفات ، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها ، فلا جرم قال في آخر الآية : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، والله أعلم .