Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 126-128)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الآية مسائل : المسألة الأولى : قال الواحدي : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال : القول الأول : وهو الذي عليه العامة أن النبـي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال : " " والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك " " فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد . وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء ، وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا : إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث . والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد ، حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤا بالقتال وهو قوله تعالى : { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا . والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله ، وأقول : إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : المراد أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ، ويحمل أكثر المستمعين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً ، ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات ، وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه . فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ، لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية ، إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة ، لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى . المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب : المرتبة الأولى : قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } دليل على أن الأولى له أن لا يفعل ، كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح ، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله ، فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه . والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ } وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام ، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام . المرتبة الثالثة : وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله : { وَٱصْبِرْ } لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال : { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصول جميع أنواع الطاعات . ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ } وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب ، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين : أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } قيل معناه : ولا تحزن على قتلى أحد ، ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء . ويرجع حاصله إلى فوت النفع . والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ } ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في الحسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث : البحث الأول : قرأ ابن كثير : { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } بكسر الضاد ، وفي النمل مثله ، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين . أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب فإنه الضيق . وقال أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم . وقال القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين . وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة ابن كثير . البحث الثاني : قرىء { وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ } . البحث الثالث : هذا من الكلام المقلوب ، لأن الضيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة ، فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك ، إلا أن الفائدة في قوله : { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم . المرتبة الرابعة : قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ } وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } عن استيفاء الزيادة : { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } في ترك أصل الانتقام ، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين . ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ، ولما قال الله لرسوله : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } ذكر هذه المراتب الأربعة ، تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه ، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له . المسألة الثالثة : قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } معيته بالرحمة والفضل والرتبة ، وقوله : { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله : { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، وعبر عنه بعض المشايخ فقال : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق ، وقال الحكماء : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل . المسألة الرابعة : قال بعضهم : إن قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ } منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد ، لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى ، وترك التعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف ، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ، ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب . قال المصنف رحمه الله : تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء بعد العشاء الآخرة بزمان معتدل ، وقال رحمه الله : الحق عزيز والطريق بعيد والمركب ضعيف والقرب بعد والوصل هجر والحقائق مصونة والمعاني في غيب الغيب محصونة والأسرار فيما وراء العز مخزونة ، وبيد الخلق القيل والقال والكمال ليس إلا لله ذي الإكرام والجلال ، والحمدلله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم .