Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 3-3)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته ، وهي المراد من قوله : { أَنَّهُ لآ إِلَـٰهَ إلآ أَنَاْ } ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله : { فَٱتَّقُونِ } [ النحل : 2 ] روح الأرواح ، ومطلع السعادات ، ومنبع الخيرات والكرامات ، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته . واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات ، إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات . أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات ، فهذه طرق ستة ، والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة ، هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال . ثم هذا الطريق يقع على وجهين : أحدهما : أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى ، وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة ، فإنه تعالى قال : { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ } فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق . ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات ، وإليه الإشارة بقوله : { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي قوله : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } لأن الأرض أقرب إلينا من السماء ، ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله : { وَٱلسَّمَاء بِنَاء } ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض ، فقال : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] . الثاني من الدلائل القرآنية أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة ، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية ، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان ، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان ، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات ، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة ، وهذا الترتيب في غاية الحسن . إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : النوع الأول : من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال : { خُلِقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 1 ] إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم ، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول : الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص ، وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه : الأول : أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه ، وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر ، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً ، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص ، وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث . الثاني : وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة ، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال . إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل ، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت . وعلى التقديرين فلحركتها أول ، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير ، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له . الثالث : أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه ، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس ، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر ، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام . واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده : { تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك ، وبين أنه لا قديم إلا هو ، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ] في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا ، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول : إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم ، والمقصود ههنا إبطال قول من يقول : الأجسام قديمة ، والسموات والأرض أزلية ، فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم ، والله أعلم .