Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 5-7)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة . وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، والشهوة والغضب ، ثم هذه الحيوانات قسمان : منها ما ينتفع الإنسان بها ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم الأول : أشرف من الثاني ، لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل . وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره ، ثم نقول : والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك ، وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها ، والقسم الأول أشرف من الثاني ، وهذا القسم هو الأنعام ، فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية ، فقال : { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ } . واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي : الضأن ، والمعز . والإبل . والبقر ، وقد يقال أيضاً : الأنعام ثلاثة : الإبل . والبقر . والغنم . قال صاحب « الكشاف » : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل . وقوله : { وَٱلأَنْعَـٰمُ } منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] ويجوز أن يعطف على الإنسان . أي خلق الإنسان والأنعام ، قال الواحدي : تم الكلام عند قوله : { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله : { لَكُمْ } ثم ابتدأ وقال : { فِيهَا دِفْء } قال صاحب « النظم » : أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : { خَلَقَهَا } والدليل عليه أنه عطف عليه قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال . المسألة الثانية : أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع ، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية . فالمنفعة الأولى : قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْء } وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا } [ النحل : 80 ] والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية ، قال الأصمعي : ويكون الدفء السخونة . يقال : أقعد في دفء هذا الحائط ، أي في كنه . وقرىء : { دف } بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء . والمنفعة الثانية : قوله : { وَمَنَـٰفِعُ } قالوا : المراد نسلها ودرها ، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم ، لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود ، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل . والمنفعة الثالثة : قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } . فإن قيل : قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } يفيد الحصر وليس الأمر كذلك ، فإنه قد يؤكل من غيرها ، وأيضاً منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس ، فلم أخر منفعته في الذكر ؟ قلنا : الجواب عن الأول : إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر ، فيشبه غير المعتاد . وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أيضاً أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وأيضاً تكتسبون باكراء الإبل وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم . والجواب عن السؤال الثاني : أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم ، فلهذا قدمه عليه في الذكر . واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام . وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور : المنفعة الأولى : قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، ويقال : سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . قال أهل اللغة : هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت . واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها . فإن قيل : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلنا : لأن الجمال في الإراحة أكثر . لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح ، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والإنتشار ، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح . والمنفعة الثانية : قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : الأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس . قال ابن عباس : يريد من مكة إلى المدينة . أو إلى اليمن . أو إلى الشام . أو إلى مصر . قال الواحدي : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشق عليكم وخص ابن عباس هذه البلاد ، لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد ، وقرىء : { بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } بكسر الشين وفتحها ، وأكثر القراء على كسر الشين . والشق المشقة والشق نصف الشيء ، وحمل اللفظ ههنا على كلا المعنيين جائز ، فإن حملناه على المشقة كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا بالمشقة ، وإن حملناه على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب النصف من قوتكم أو من بدنكم ويرجع عند التحقيق إلى المشقة . ومن الناس من قال : المراد من قوله : { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا } الإبل فقط بدليل أنه وصفها في آخر الآية بقوله { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ } وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل . قلنا : المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصلة في الكل وبعضها مختص بالبعض ، والدليل عليه : أن قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } حاصل في البقر والغنم مثل حصوله في الإبل ، والله أعلم . المسألة الثانية : احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فقالوا : هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال ومثبتو الكرامات يقولون : إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة ، فكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً ، ولما بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور ، لأنه لا قائل بالفرق . وجوابه : أنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات . والله أعلم .