Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 81-83)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيماً أو مسافراً ، والمسافر إما أن يكون غنياً يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط ، أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة : أما القسم الأول : فإليه الإشارة بقوله : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } . وأما القسم الثاني : فإليه الإشارة بقوله : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } وأما القسم الثالث : فإليه الإشارة بقوله : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال : { وظللنا عليكم الغمام } [ البقرة : 57 ] . ثم قال : { وجعل لكم من الجبال أكناناً } واحد الأكنان كن على قياس أحمال وحمل ، ولكن المراد كل شيء وقى شيئاً ، ويقال استكن وأكن إذا صار في كن . واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر ، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة ، وأيضاً البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جداً والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد . وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه ، فكان الإنعام بتحصيله عظيماً ، ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكر بعده أمر الملبوس فقال : { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } السرابيل القمص واحدها سربال ، قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره ، والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين : أحدهما : ما يكون واقياً من الحر والبرد . والثاني : ما يتقى به عن البأس والحروب ، وذلك هو الجوشن وغيره ، وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل . فإن قيل : لم ذكر الحر ولم يذكر البرد ؟ أجابوا عنه من وجوه : الوجه الأول : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } [ النحل : 80 ] وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان إلفتهم بها أشد ، واعتيادهم للبسها أكثر ، ولذلك قال : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } [ النور : 43 ] لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه . والوجه الثاني : في الجواب قال المبرد : إن ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر ، قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر ، فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضاً البرد ، وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض ، فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعاً للشعور بالآخر ، كان ذكر أحدها مغنياً عن ذكر الآخر . والوجه الثالث : قال الزجاج : ما وقى من الحر وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر . فإن قيل : هذا بالضد أولى ، لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة ، وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكليف زائد . قلنا : القميص الواحد لما كان دافعاً للحر كان الاستكثار من القميص دافعاً للبرد فصح ما ذكرناه ، وقوله : { وسرابيل تقيكم بأسكم } يعني دروع الحديد ، ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي . واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال : { كذلك يتم نعمته عليكم } أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم : { لعلكم تسلمون } قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية ، وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه ، ونقل عن ابن عباس أنه قرأ : { لعلكم تسلمون } بفتح التاء ، والمعنى : أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب ، وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله . ثم قال تعالى : { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين } أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك ، وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ، ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وذلك نهاية في كفران النعمة . فإن قيل : ما عنى ثم ؟ قلنا : الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة ، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر . وفي المراد بهذه النعمة وجوه : الأول : قال القاضي : المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ومعنى أنهم أنكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة ، بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا : إنما حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام . والثاني : أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق ثم ينكرونها ، ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة العالمين } . الثالث : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى . ثم قال تعالى : { وأكثرهم الكافرون } . فإن قيل : ما معنى قوله { وأكثرهم الكافرون } مع أنه كان كلهم كافرين . قلنا : الجواب من وجوه : الأول : إنما قال : { وأكثرهم } لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوهاً ، فأراد بالأكثر البالغين والأصحاء . الثاني : أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند ، وحينئذ نقول إنما قال : { وأكثرهم } لأنه كان فهيم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبياً من عند الله . الثالث : أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع ، لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل ، فذكر الأكثر كذكر الجميع ، وهذا كقوله : { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } [ لقمان : 25 ] والله أعلم .