Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 35-35)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً ، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا ، وعن القتل إلا بالحق ، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } . واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } نظير لقوله تعالى : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] فدخل في قوله : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة ، وعقد اليمين والنذر ، وعقد الصلح ، وعقد النكاح . وحاصل القول فيه : أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد ، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله : { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] وقوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] وقوله : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ } [ البقرة : 275 ] وقوله : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] وقوله عليه السلام : " " لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه " " وقوله : " " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " " وقوله : " " من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه " " فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام . إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام ، وإلا قضينا بالصحة في الكل ، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل ، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان ، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مسؤلا } وفيه وجوه : أحدها : أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله : { وَاسأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . وثانيها : أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به . وثالثها : أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة : { بِأَيّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 9 ] وكقوله : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّيَ إِلَـٰهَيْنِ } [ المائدة : 116 ] الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره . النوع الثاني : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله : { وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1 3 ] . النوع الثالث : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه الآية في إتمام الوزن ، ونظيره قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 9 ] وقوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ هود : 85 ] . واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل ، والوزن قليل . والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم ، فوجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله ، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان ، سعياً في إبقاء الأموال على الملاك ، ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير ، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان . وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني . والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط ، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال ، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين ، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ، ضم القاف وكسرها ، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم . ثم قال تعالى : { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر : { خَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] { خَيْرٌ عُقْبًا } [ الكهف : 44 ] { خَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب ، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل ، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة . وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم .