Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 39-40)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف . فأولها : قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } [ الإسراء : 22 ] وقوله : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } [ الإسراء : 23 ] مشتمل على تكليفين : الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع ثلاثة . وقوله : { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [ الإسراء : 23 ] هو الرابع ، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي : قوله : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا } [ الإسراء : 23 ، 24 ] فيكون المجموع تسعة ، ثم قال : { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر . ثم قال : { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } [ الإسراء : 26 ] فيصير ثلاثة عشر . ثم قال : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } وهو الرابع عشر ثم قال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [ الإسراء : 28 ، 29 ] إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ، ثم قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ } [ الإسراء : 31 ] وهو السادس عشر ، ثم قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } وهو السابع عشر ثم قال : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً } وهو الثامن عشر ، ثم قال : { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } [ الإسراء : 33 ] وهو التاسع عشر ، ثم قال : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] وهو العشرون . ثم قال : { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } وهو الحادي والعشرون ، ثم قال : { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } [ الإسراء : 35 ] وهو الثاني والعشرون ، ثم قال : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] وهو الثالث والعشرون ، ثم قال : { وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحًا } [ الإسراء : 37 ] وهو الرابع والعشرون ، ثم قال : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } وهو الخامس والعشرون ، فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] وخاتمتها قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } إذا عرفت هذا فنقول : ههنا فوائد : الفائدة الأولى : قوله : { ذٰلِكَ } إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة ، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه : أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها . فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن ، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله : { هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 ، 222 ] . وثانيها : أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار . وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها ، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة ، وعن ابن عباس : أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام : أولها : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } [ الإسراء : 22 ] قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْء } [ الأعراف : 145 ] . والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد ، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى ، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد ، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد ، تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه ، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً ، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً ، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول ، وبين الملوم المدحور . فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم ، فهو أن كونه مذموماً معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، فهذا معنى كونه مذموماً ، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل ، وما الذي حملك عليه ، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك ، وهذا هو اللوم . فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً ، وآخره أن يصير ملوماً ، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت ، وأما المدحور فهو المطرود . والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى : { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به ، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً ، وآخره أن يصير مدحوراً ، والله أعلم بمراده . وأما قوله : { أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ إِنَاثًا } فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة ، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان فأشرف القسمين البنون ، وأخسهما البنات . ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له ، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى : { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [ الطور : 39 ] وقوله : { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأنثَىٰ } [ النجم : 21 ] وقوله : { أَفَأَصْفَـٰكُمْ } يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي . قال أبو عبيدة في قوله : { أَفَأَصْفَـٰكُمْ } أفخصكم ، وقال المفضل : أخلصكم . قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة . ثم قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } وبيان هذا التعظيم من وجهين : الأول : أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته . وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام . والثاني : أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله . وهذا أيضاً جهل عظيم .