Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 66-69)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد ، والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الإنعامات في أحوال ركوب البحر . فالنوع الأول : كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله : { رَّبُّكُمُ ٱلَّذِى يُزْجِى لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِى ٱلْبَحْرِ } والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله : { بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } [ يوسف : 88 ] والمعنى : ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً ، والخطاب في قوله : { رَبُّكُـمْ } وفي قوله : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ } عام في حق الكل ، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها . والنوع الثاني : قوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ } والمراد من الضر ، الخوف الشديد كخوف الغرق : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك . وإنما يتضرع إلى الله تعالى ، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ كَفُورًا } لنعم الله بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته ، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره . والنوع الثالث : قوله : { أَفَأَمِنتُمْ أَن نَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرّ } قال الليث : الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء . يقال : عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس ، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء ، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر . فقوله : { أن نَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرّ } أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض ، وإنما قال { جَانِبَ ٱلْبَرّ } لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب ، والبر جانب ، خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب ، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلما نجاهم منه آمنوا ، فقال : هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هول البر ؟ فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق ، أما من جانب التحت فبالخسف . وأما من جانب الفوق فبإمطار الحجارة عليهم ، وهو المراد من قوله : { أَوْ يرسل عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر ، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال . ومعنى الحصب في اللغة : الرمي . يقال : حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي . ومنه قوله تعالى : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] أي يلقون فيها ، ومعنى قوله : { حَـٰصِباً } أي عذاباً يحصبهم ، أي يرميهم بحجارة ، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب ، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً . وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله ، ثم قال : { أَمْ أَمِنتُمْ أَن نُعِيدُكُمْ فِيهِ } أي في البحر تارة أخرى وقوله : { فَنُرسل علَيْكُمْ قَاصِفًا } من الريح القاصف الكاسر يقال : قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة ، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر ، وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله : { فَنُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً . قال الزجاج : أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم ، وتبيع بمعنى تابع . واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة : وهي قوله : { أن نَخْسِفْ . أَوْ نُرْسِلُ . أَوْ نُعِيدُكُمْ . فنرسل . فنغرقكم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون ، والباقون بالياء ، فمن قرأ بالياء ، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله : { إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـٰكُمْ } ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام ، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد . ألا ترى أنه قد جاء { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرٰءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى واحد والكل جائز ، والله أعلم .