Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 106-111)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه سبحانه لما قال : { أَلَمْ تَكُنْ ءايَـٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين : الأول : قولهم : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قال صاحب « الكشاف » : غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك ، والشقاوة سوء العاقبة ، قرىء : شقوتنا وشقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما ، قال أبو مسلم : الشقوة من الشقاء كجرية الماء ، والمصدر الجري ، وقد يجيء لفظ فعله ، والمراد به الهيئة والحال ، فيقول جلسة حسنة وركبة وقعدة وذلك من الهيئة ، وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء . المسألة الثانية : قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب . وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم ، قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة ، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث ، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك ، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى ؟ فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه : أحدها : أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها : أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له ، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني : أن أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم ، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم ، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه ، لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل ؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني : لهم في الجواب قولهم : { وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا خلق الداعي إلى الضلال ، ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين ، قال لهم سبحانه : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة ، بل لا يسأل عما يفعل . قال القاضي في قوله : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف ، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب ، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم ، قال لهم : { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } . أما قوله : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ } فالمعنى : أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا ، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون ، فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم ؟ قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة . ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح . أما قوله : { اخسئوا فيها } فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت ، يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه . أما قوله : { وَلاَ تُكَلّمُونِ } فليس هذا نهياً لأنه لا تكليف في الآخرة ، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف ، قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير ، والعواء كعواء الكلاب ، لا يفهمون ولا يفهمون . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن لهم ست دعوات ، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا } [ السجدة : 12 ] فيجابون { حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْى } [ السجدة : 13 ] فينادون ألف سنة ثانية { رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] فيجابون { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ } [ غافر : 12 ] فينادون ألف ثالثة { يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] فيجابون { إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] فينادون ألفاً رابعة { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا } فيجابون { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] فينادون ألفاً خامسة { أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً } [ فاطر : 37 ] فيجابون { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ } [ فاطر : 37 ] فينادون ألفاً سادسة { رَبّ ٱرْجِعُونِ } [ المؤمنون : 99 ] فيجابون { اخسئوا فيها } ثم بين سبحانه وتعالى ، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين ، وهو قوله : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } فوصف تعالى أحد ما لأجه عذبوا وبعدوا من الخير ، وهو ما عاملوا به المؤمنين . وفي حرف أبي { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ } بالفتح بمعنى لأنه . وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن ، وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى . وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى السخرية . قال مقاتل : إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب ، والمعنى اتخذتموهم هزواً حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله : { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال : { إِنِى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } قرأ حمزة والكسائي أنهم بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء ، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت ، ويجوز أن يكون نصباً بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون .