Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 41-44)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته وفي إيراد الشبهات في ذلك ، بين بعد ذلك أنهم إدا رأوا الرسول اتخذوه هزواً فلم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض { أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال صاحب « الكشاف » إنْ الأولى نافية والثانية مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينهما . المسألة الثانية : جواب إذا هو ما أضمر من القول يعني وإذا رأوك مستهزئين قالوا أبعث الله هذا رسولاً ، وقوله : { إِن يَتَّخِذُونَكَ } جملة اعترضت بين إذا وجوابها . المسألة الثالثة : اتخذوه هزواً في معنى استهزؤا به والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءاً به . المسألة الرابعة : اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال أحدهما أنهم يستهزئون به ، وفسر ذلك الاستهزاء بقوله : { أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته . أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة . وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام ، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة . وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } وذلك يدل على أمور : الأول : أنهم سموا ذلك إضلالاً ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه صلى الله عليه وسلم في صرفهم عنه ، وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق ، فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه ، ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر واضلال ، وقولهم : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } يدل أيضاً على ذلك الثاني : يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان ، ولولا ذلك لما قالوا : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث : أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول صلى الله عليه وسلم وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } إشارة إلى الجحود والتقليد ، ولو ذكروا اعتراضاً على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال ، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام ، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع : الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولاً ، ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار ، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز ، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره ، فتارة بالوقاحة يستهزئون منه ، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ، ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها : قوله : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم : { إِن كَانَ } بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها : قوله تعالى : { أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة ، فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له ، سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ، ثم ههنا أبحاث : الأول : قوله : { أَرَأَيْتَ } كلمة تصلح للإعلام والسؤال ، وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته . الثاني : قوله : { ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلهاً يهواه ، وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف ، لأن قوله : { ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } يفيد الحصر ، أي لم يتخذ لنفسه إلهاً إلا هواه ، وهذا المعنى لا يحصل عند القلب . قال ابن عباس : الهوى إله يعبد ، وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده . الثالث : قوله : { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك . الرابع : نظير هذه الآية قوله تعالى : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] وقوله : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] وقوله : { لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ } [ البقرة : 256 ] قال الكلبي : نسختها آية القتال وثالثها : قوله : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } أم ههنا منقطعة ، معناه بل تحسب ، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها ، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام ، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه ، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة ، فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات : السؤال الأول : لم قال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ } فحكم بذلك على الأكثر دون الكل ؟ والجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق ، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل . السؤال الثاني : لم جعلوا أضل من الأنعام ؟ الجواب : من وجوه : أحدها : أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها : أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم . وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون ، بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها : أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ورابعها : أن الأنعام لا تعرف شيئاً ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب ، والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها : أن البهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم ، أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها : أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } [ الأسراء : 44 ] وقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [ الحج : 18 ] إلى قوله : { وَٱلدَّوَابّ } [ الحج : 18 ] وقال : { وَٱلطَّيْرُ صَافَّـٰتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام . السؤال الثالث : أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل ، فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل ؟ الجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم .