Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 63-67)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن قوله : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة ، ويجوز أن يكون خبره { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ } ، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية ، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات ، وقرىء { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات : الصفة الأولى : قوله : { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء { يَمْشُونَ } { هَوْناً } حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً ، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة ، والهون الرفق واللين ومنه الحديث " " أحبب حبيبك هوناً ما " " وقوله : " " المؤمنون هينون لينون " " والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ، ولا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال : { وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحًا } [ الإسراء : 37 ] وعن زيد بن أسلم التمست تفسير { هَوْناً } فلم أجد ، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض ، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض . الصفة الثانية : قوله تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً ، فأقيم السلام مقام التسليم ، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت ، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا ، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة ، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل ، قال الأصم : { قَالُواْ سَلاَماً } أي سلام توديع لا تحية ، كقول إبراهيم لأبيه : { سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } [ مريم : 47 ] ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع . الصفة الثالثة : قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً } واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين : أحدهما : ترك الإيذاء ، وهو المراد من قوله : { يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } والآخر تحمل التأذي ، وهو المراد من قوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار ، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } [ السجدة : 16 ] ثم قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً ، ومعنى { يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ } أن يكونوا في لياليهم مصلين ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل ، فقد بات ساجداً وقائماً ، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة ، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً ، قال الحسن يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم . الصفة الرابعة : قوله : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول ، وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقاً من عذاب جهنم ، وقوله : { غَرَاماً } أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن ، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع ، وعن محمد بن كعب في { غَرَاماً } أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار ، واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله : { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : 60 ] . أما قوله تعالى : { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } فقوله : { سَاءتْ } في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره مستقراً ، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً ، لها ، ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت ، وفيها ضمير اسم إن ومستقراً حال أو تمييز ، فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين : إحداهما أن عذابها كان غراماً ، وثانيهما : أنها ساءت مستقراً ومقاماً ، فما الفرق بين الوجهين ؟ وأيضاً فما الفرق بين المستقر والمقام ؟ قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة ، فقوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع ، وقوله : { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } إشارة إلى كونها دائمة ، ولا شك في المغايرة ، أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها ، وأما الإقامة فللكفار ، واعلم أن قوله : { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم . الصفة الخامسة : قوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } قرىء { يَقْتُرُواْ } بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضاً بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات . والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة . وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً : أحدها : وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] وعن وهيب بن الورد قال لعالم : ما البناء الذي لا سرف فيه ؟ قال : ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر ، فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه ؟ قال ما سد الجوعة ، فقال له في اللباس ، قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد ، وروي أن رجلاً صنع طعاماً في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال : " " حق فأجيبوا " " ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال : " " حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد " " ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال : " " رياء ولا خير فيه " " وثانيها : وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى ، والإقتار منع حق الله تعالى ، قال مجاهد : لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً ، وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي ، وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله ، وهو أقبح التقتير ، وقد يكون عما لا يجب ، ولكن يكون مندوباً مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه وثالثها : المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا ، وإن كان من حلال ، فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء ، والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار ، وهذه الصفة صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد ، وههنا مسألتان : المسألة الأولى : القوام قال ثعلب : القوام بالفتح العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر ، قال صاحب « الكشاف » : القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء ، وقرىء { قَوَاماً } بالكسر وهو ما يقام به الشيء ، يقال أنت قوامنا ، يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص . المسألة الثانية : المنصوبان أعني { بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } جائز أن يكونا خبرين معاً ، وأن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً ، وأن يكون الظرف خبراً وقواماً حالاً مؤكدة ، قال الفراء : وإن شئت جعلت { بَيْنَ ذٰلِكَ } اسم كان ، كما تقول كان دون هذا كافياً ، تريد أقل من ذلك ، فيكون معنى { بَيْنَ ذٰلِكَ } ، أي كان الوسط من ذلك قواماً ، أي عدلاً ، وهذا التأويل ضعيف ، لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل ، وكان الوسط وسطاً وهذا لغو .