Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 20-24)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير ، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه : أحدها : قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده وثانيها : أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه ، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده ، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها : أنه كان يظله من الشمس ، فلما فقد ذلك تفقده . أما قوله : { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَائِبِينَ } فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه ، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ، ومثله قولهم : إنها لإبل أم شاء . أما قوله : { لأُعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب ، ثم اختلفوا في قوله : { لأُعَذّبَنَّهُ } فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس ، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل أن يلقى للنمل فتأكله ، وقيل إيداعه القفص ، وقيل التفريق بينه وبين إلفه ، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد ، وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، وقيل لألزمنه خدمة أقرانه . أما قوله : { فَمَكَثَ } فقد قرىء بفتح الكاف وضمها { غَيْرَ بَعِيدٍ } غير زمان بعيد كقولك عن قريب ، ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له . أما قوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به ، فيكون ذلك لطفاً في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته . أما قوله : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه ، وقد روي بسكون الباء ، وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسماً للحي أو للأب الأكبر صرف ، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، والنبأ الخبر الذي له شأن . وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى ، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن لفظاً ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً ، ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . أما قوله : { إِنّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } فالمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس ، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها . وأما قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } ففيه سؤال وهو أنه كيف قال : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } مع قول سليمان { وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 16 ] فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه : أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا . وأما قوله : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } ففيه سؤال ، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟ وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم ؟ والجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان ، وعن الثاني : أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض ، واعلم أن ههنا بحثين : البحث الأول : أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه : أحدها : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة ، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا ، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والصئبان ، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها : أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه ؟ وثالثها : كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان ، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ والجواب عن الأول : أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع ، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك . البحث الثاني : قالت المعتزلة قوله : { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ } يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها : أنه متروك الظاهر ، فإنه قال : { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف ، فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب : قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة ، والله أعلم .