Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 46-47)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال : { وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف ، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا ، أي إذا ظلموا زائداً على كفرهم ، وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه ، ولهذا قال تعالى في حقهم { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [ البقرة : 18 ] وقال : { لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولهم آذان لا يسمعون بها } [ الأعراف : 179 ] إلى غير ذلك . وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبـي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم ، بخلاف المشرك ، ثم على هذا فقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } تبيين له حسن آخر ، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون ، لأن الشرك ظلم عظيم ، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم ، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بِٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء ، ثم بعد ذلك ذكر دليلاً قياسياً فقال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس ، ثم قال : { فَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } لوجود النص ومن هؤلاء كذلك ، واختلف المفسرون فقال بعضهم : المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله : { وَمِنْ هَـؤُلاء } أي من أهل مكة وقال بعضهم : المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً من أهل الكتاب ، ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وهذا أقرب ، فإن قوله : { هَـؤُلاء } صرفه إلى أهل الكتاب أولى ، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا ، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر ، وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل ، وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به ، وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله : { وَمِنْ هَـؤُلاء } أي من أهل الكتاب وهو أقرب ، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء ، فإن الله ما آتى الكتاب إلا للأنبياء ، كما قال تعالى : { أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } [ الأنعام : 89 ] وقال : { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] وقال : { وَءاتَانِي ٱلْكِتَـٰبِ } [ مريم : 30 ] وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص ، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء ، وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عدداً قليلاً ، ويكون المراد بقوله : { وَمِنْ هَـؤُلاء } غير المذكورين ، وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم ، والوقت وقت جريان ذكرهم ، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفاً إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم ، وإذا قال أولئك يكون منصرفاً إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم ، وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه ، وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك ، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين ، وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان ، فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبـي صلى الله عليه وسلم نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بـي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا ، ثم قال تعالى : { وما يجحد بآياتنا إِلاَّ ٱلْكَـٰفِرُونَ } تنفيراً لهم عما هم عليه ، يعني أنكم آمنتم بكل شيء ، وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة ، إلا هذه المسألة الواحدة ، وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم ، فإن الجاحد بآية يكون كافراً .