Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 61-61)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله : { يا عبادي ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ العنبكوت : 56 ] وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن ، فإن السيد إذا كان له عبدان ، أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد ، ينصح أولاً المفسد ، فإن لم يسمع يقول معرضاً عنه ، ملتفتاً إلى الرشيد ، إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد ، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد ، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه ، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه ، إن هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده ، يكون هذا الكلام أيضاً داعياً له إلى سبيل الرشاد مانعاً له من ذلك الفساد ، فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن العجب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون ، وفي الآية لطائف إحداها : ذكر في السموات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ، وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة ، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء ، فإذاً الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية : في لفظ التسخير ، وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافياً ، لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين ، فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان آلافاً من الفراسخ ، ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات ، إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة ، والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق ، والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس ، ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس ، والشمس على أفق المغرب ، والقمر على أفق المشرق ، وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر ، ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول ، ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون ، ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة ، فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر ، وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى : { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] الثالثة : ذكر أمرين أحدهما خلق السموات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر ، لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات ، فخلق السموات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات ، وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها ، فكأنه ذكر من القبيلين مثالين ، ثم قال تعالى : { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله ، مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات والأرض ، ولا حقارة فوق حقارة الجماد ، لأن الجماد دون الحيوان ، والحيوان دون الإنسان ، والإنسان دون سكان السموات فكيف يتركون عبادة أعظم الموجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات .