Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 154-154)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين ، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين ، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين . الثاني : أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا ، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه . واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان : أحدهما : الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان ، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال ، فلا جرم كانوا آمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس ، فان النوم لا يجيء مع الخوف ، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية ، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ٱلْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً } وقال في قصة بدر { إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس ، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة ، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام ، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة ، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ، ثم إنه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين ، فقال في صفة المؤمنين : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ٱلْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال الواحدي : « الأمنة » مصدر كالأمن ، ومثله من المصادر : العظمة والغلبة ، وقال الجبائي : يقال : أمن فلان يأمن أمناً وأماناً . المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرىء أمنة بسكون الميم ، لأنها المرة من الأمن . المسألة الثالثة : في قوله تعالى : { نُّعَاساً } وجهان : أحدهما : أن يكون بدلا من أمنة ، والثاني : إن يكون مفعولا ، وعلى هذا التقدير ففي قوله : { أمنة } وجوه : أحدها : أن تكون حالا منه مقدمة عليه ، كقولك : رأيت راكباً رجلا ، وثانيها : أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة ، وثالثها : أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة . ثم قال تعالى : { يَغْشَىٰ طَائِفَةً مّنْكُمْ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة ، غشينا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه . ثم يسقط فيأخذه ، وعن الزبير قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف ، فأرسل الله علينا النوم ، وإني لأسمع قول معتب بن قشير : والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . وقال عبد الرحمن بن عوف : ألقى النوم علينا يوم أحد ، وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله . واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد : أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده ، وثانيها : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة ، وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم ، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ، ورابعها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم ، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ، ومن الناس من قال : ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن ، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض ، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم . المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي { تغشى } بالتاء رداً إلى الأمنة ، والباقون بالياء رداً ، إلى النعاس ، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد . واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر ، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت ، كقوله تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ * كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ } [ الدخان : 43 45 ] وتغلي ، إذا عرفت جوازهما فنقول : مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة ، والنعاس بدل ، ورد الكناية إلى الأصل أحسن ، وأيضاً الأمنة هي المقصود ، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه ، فان الخائف لا يكاد ينعس ، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي ، فان العرب يقولون غشينا النعاس ، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة ، وأيضاً فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله : { إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] وأيضاً : النعاس يلي الفعل ، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى . ثم قال تعالى : { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وفيه مسألتان . المسألة الأولى : هؤلاء هم المنافقون عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما ، كان همهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء أي كان من همي وقصدي ، قال أبو مسلم : من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف ، قد أهمته نفسه ، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم ، وقيل المؤمنون ، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين ، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه : أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه ، صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم ، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم ، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم . المسألة الثانية : « طائفة » رفع بالابتداء وخبره « يظنون » وقيل خبره « أهمتهم أنفسهم » ثم إنه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات . الصفة الأولى : من صفاتهم قوله تعالى : { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقّ ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : في هذا الظن احتمالان : أحدهما : وهو الأظهر : هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد ، أما على قول أهل السنة والجماعة ، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، فإن النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها ، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى ، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية ، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم ، بحيث يقهر الكافر المسلم ، حكم خفية وألطاف مرعية ، فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول ، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن ، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين . قال القفال : لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر ، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، بل الانسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات ، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ، ومن المحق للمبطل ، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق . الثاني : أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والبعث ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يقويهم وينصرهم . المسألة الثانية : { غَيْرِ الحق } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وظن الجاهلية بدل منه ، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق : أديان كثيرة ، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية ، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا ، وهو ظن أهل الجاهلية ، كما يقال : فلان دينه ليس بحق ، دينه دين الملاحدة . المسألة الثالثة : في قوله : { ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ } قولان : أحدهما : أنه كقولك : حاتم الجود ، وعمر العدل ، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية ، والثاني : المراد ظن أهل الجاهلية . الصفة الثانية : من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } . واعلم أن قوله { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء } حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها ، وهو يحتمل وجوها : الأول : أن عبدالله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبدالله بن أبي من ذلك ، فقال عصاني وأطاع الولدان ، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبدالله بن أبي قيل له : قتل بنو الخزرج ، فقال : هل لنا من الأمر من شيء ، يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عمران : 168 ] والمعنى : هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار . الوجه الثاني في التأويل : أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا : عليه الأمر ، فقوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء } أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد ، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار ، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته ، وهذا استفهام على سبيل الانكار . الثالث : أن يكون التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ، ثم إن الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو كله برفع اللام ، والباقون بالنصب ، أما وجه الرفع فهو أن قوله : كله مبتدأ وقوله : لله خبره ، ثم صارت هذه الجملة خبراً لإن ، وأما النصب فلأن لفظة « كل » للتأكيد ، فكانت كلفظة أجمع ، ولو قيل : إن الأمر أجمع ، لم يكن إلا النصب ، فكذا إذا قال « كله » . المسألة الثانية : الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا : أنا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء ، والفقر والإغناء والسراء والضراء ، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح ، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة ، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام ، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه . المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المنافقين قالوا : إن محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله ، وهذا الجواب : إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين ، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا . وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي ، وذلك لأن الموجود ، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء الى الواجب لذاته ، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه ، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث ، أو ممكن دون ممكن ، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم ، وذلك هو المراد بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف . ثم انه تعالى قال : { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } . واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : { هل لنا من الأمر من شيء } ، وهذا الكلام محتمل ، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين ، وكان غرضه منه إظهار الشفقة ، وانه متى يكون الفرج ؟ ومن أين تحصل النصرة ؟ ولعله كان من المنافقين ، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني ، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم . النوع الثالث : من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين ، قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . وفيه إشكال ، وهو أن لقائل أن يقول : ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء } ويمكن أن يجاب عنه من وجهين : الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء } فأجاب عنه بقوله : { ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا ، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله ، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فإن السني يقول : الأمر كله في الطاعة والمعصية والإيمان والكفر بيد الله ، فيقول المعتزلي : ليس الأمر كذلك ، فإن الإنسان مختار مستقل بالفعل ، إن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى . والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَىْء } هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ، ويكون المراد من قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا } هو ما كان يقوله عبدالله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا . واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه : الوجه الأول من الجواب : قوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير ، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات ، لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل ، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى ، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا ، وكل ذلك محال ، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله : { ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ } وهذه الكلمة تفيد الوجوب ، فان هذه الكلمة في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ } [ البقرة : 183 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } [ البقرة : 178 ] تفيد وجوب الفعل ، وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل ، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق . ثم نقول للمفسرين : فيه قولان : الأول : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد ، والثاني : كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم . الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة : قوله : { وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ } وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ، ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها ، فقال تعالى : بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة : أن يتميز الموافق من المنافق ، وفي المثل المشهور : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين ، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة . فان قيل : لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] . قلنا : لما طال الكلام أعاد ذكره ، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والثاني سائر الأحوال . والوجه الثالث في الجواب : قوله : { وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } وفيه وجهان : أحدهما : أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات ، والثاني : أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت ، وذكر في الابتلاء الصدور ، وفي التمحيص القلوب ، وفيه بحث ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور ، وهي الأسرار والضمائر ، وهي ذات الصدور ، لأنها حالة فيها مصاحبة لها ، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته ، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور ، أو غير ذلك ، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم إما لمحض الإلهية ، أو للاستصلاح .