Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 195-195)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [ آل عمران : 190 ] إلى قوله : { لأَيَـٰتٍ لأُوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ } [ آل عمران : 190 ] ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً } وعلى التفكر وهو قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ } [ آل عمران : 191 ] ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] إلى قوله : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [ آل عمران : 194 ] بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال : { فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور ، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا ، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا . المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : يقال استجابه واستجاب له ، قال الشاعر : @ وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب @@ وقال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 34 ] . المسألة الثالثة : أني لا أضيع : قرىء بالفتح ، والتقدير : بأني لا أضيع ، وبالكسر على إرادة القول ، وقرىء { لاَ أُضِيعُ } بالتشديد . المسألة الرابعة : من : في قوله : { مّن ذِكْرِ } قيل للتبيين كقوله : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } [ الحج : 30 ] وقيل : إنها مؤكدة للنفي بمعنى : عمل عامل منكم ذكر أو أنثى . المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل ، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى ، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل ، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله : { لاَ أُضِيعُ } نفي للنفي فيكون اثباتا ، فيصير المعنى : اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم ، اذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا ، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا ، وبمعصيته استحق عقابا ، فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال ، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع ، أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب . المسألة السادسة : جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم . فان قيل : القوم أولا طلبوا غفران الذنوب ، وثانيا إعطاء الثواب فقوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب ؟ قلنا : إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } اجابة لدعائهم في المطلوبين . وعندي في الآية وجه آخر : وهو أن المراد من قوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } أني لا أضيع دعاءكم ، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه . وأما قوله تعالى : { مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } فالمعنى : أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية ، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال ، لا بسائر صفات العاملين ، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى ، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ، ومثله قوله تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] وروي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية . أما قوله تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } ففيه وجوه : أحسنا أن يقال : { مِنْ } بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية . قال القفال : هذا من قولهم : فلان مني أي على خلقي وسيرتي ، قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى } [ البقرة : 249 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " " من غشنا فليس منا " " وقال : " " ليس منا من حمل علينا السلاح " " فقوله : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه ؟ ثم قال تعالى : { فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثواباً من عندالله } والمراد من قوله : { فَـٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد من الذين أُخرجوا من ديارهم الذين ألجأهم الكفار الى الخروج ، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار ، فكانوا أفضل وقوله : { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } أي من أجله وسببه { وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ } لان المقاتلة تكون قبل القتال ، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو { وَقَاتِلُواْ } بالالف أولا { وَقُتّلُواْ } مخففة ، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر { وَقَاتِلُواْ } أولا { وَقُتّلُواْ } مشددة قيل : التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ صۤ : 50 ] وقيل : قطعوا عن الحسن ، وقرأ حمزة والكسائي { وَقُتّلُواْ } بغير ألف أولا { وَقَاتِلُواْ } بالالف بعده وفيه وجوه : الأول : أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله : { وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى } [ آل عمران : 43 ] والثاني : على قولهم : قتلنا ورب الكعبة ، اذا ظهرت أمارات القتل ، أو اذا قتل قومه وعشائره . والثالث : باضمار « قد » أي قتلوا وقد قاتلوا . ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة : أولها : محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله : { لأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } وذلك هو الذي طلبوه بقولهم : { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا } [ آل عمران : 193 ] وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } وهو الذي طلبوه بقولهم : وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وثالثها : أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله : { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } وهو الذي قالوه : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته ، واذا قال السلطان العظيم لعبده : اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله : { ثَوَاباً } مصدر مؤكد ، والتقدير : لأثيبنهم ثوابا من عند الله ، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله ، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم . ثم قال : { وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ } وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات ، عالما بكل المعلومات ، غنياً عن الحاجات ، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان ، فكان عنده حسن الثواب . روي عن جعفر الصادق أنه قال : من حزبه أمر فقال خمس مرات : ربنا ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية ، قال : لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات : ربنا ، ثم أخبر أنه استجاب لهم .