Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-54)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته ، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء ، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات ، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ } وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أنهم تكلموا بالكفر ، فأحس ذلك بإذنه والثاني : أن نحمله على التأويل ، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر ، وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس ، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس . المسألة الثانية : اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول : قال السدي : أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفاً ، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً ، فسأله عيسى عن السبب فقال : ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده ، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي ، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك ، قالت : يا بني ادع الله ليكفي ذلك ، فقال : يا أماه إن فعلت ذلك كان شر ، فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً ، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر ؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب ، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام ، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك ، فقال عيسى : لا نفعل ، فإنه إن عاش كان شراً ، فقال : ما أبالي ما كان إذا رأيته ، وإن أحييته تركتك على ما تفعل ، فدعا الله عيسى ، فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا ، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق ، وقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه والكفر به . والقول الثاني : إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله . والقول الثالث : إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } فما أجابه إلا الحواريون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله . أما قوله تعالى : { قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : في الآية أقوال الأول : أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين ، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك ، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام : الآن تصيد السمك ، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد ، فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى ، وملؤا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام . والقول الثاني : أن قوله { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ، ثم ههنا احتمالات الأول : أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ . فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم : أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه ، فقال له عيسى : حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها ، فصارت كما كانت ، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه . والاحتمال الثاني : أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى { فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } [ الصف : 14 ] . المسألة الثانية : قوله { إِلَى ٱللَّهِ } فيه وجوه الأول : التقدير : من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني : التقدير : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى ، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله تعالى الثالث : قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ } [ النساء : 2 ] أي معها ، وقال صلى الله عليه وسلم : " " الذود إلى الذود إبل " " أي مع الذود . قال الزجاج : كلمة { إِلَىٰ } ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول : ذهب زيد مع عمرو لأن { إِلَىٰ } تفيد الغاية و { مَّعَ } تفيد ضم الشيء إلى الشيء ، بل المراد من قولنا أن { إِلَىٰ } ههنا بمعنى { مَّعَ } هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ } [ النساء : 2 ] أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وكذلك قوله عليه السلام : " " الذود إلى الذود إبل " " معناه : الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع : أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى " " اللّهم منك وإليك " " أي تقرباً إليك ، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته { إِلَىٰ } أي انضم إلى ، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس : أن يكون { إِلَىٰ } بمعنى اللام كأنه قال : من أنصاري لله نظيره قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ } [ يونس : 35 ] والسادس : تقدير الآية : من أنصاري في سبيل الله . و إلى بمعنى في جائز ، وهذا قول الحسن . أما قوله تعالى : { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : ذكروا في لفظ { الحواري } وجوهاً الأول : أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حواري ، لأنه هو الخالص منه ، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير : " " إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي " " والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم . القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حواري ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم ؟ فقال سعيد بن جبير : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي . القول الثالث : قال الضحاك : مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال مقاتل بن سليمان : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته . المسألة الثانية : اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا ؟ . فالقول الأول : إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم « تعالوا نصطاد الناس » قالوا : من أنت ؟ قال : « أنا عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله » فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم الحواريون . القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : ههنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً ، وجعل الجميع فيه وقال : « كوني بإذن الله كما أريد » فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : « قم فانظر » فكان يخرج ثوباً أحمر ، وثوباً أخضر ، وثوباً أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه ، وآمنوا به فهم الحواريون . القول الثالث : كانوا الحواريون إثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله : عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : « أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه » فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين . القول الرابع : أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا بعيسى عليه السلام ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عيسى بن مريم ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام ، وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته . المسألة الثالثة : المراد من قوله { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه . أما قوله { آمنا بِٱللَّهِ } فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه . ثم قالوا : { وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضاً ، ثم فيه قولان الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم . واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : { رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا : في الآية المتقدمة { آمنا بِٱللَّهِ } ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا { بِمَا أَنزَلَتْ } وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا { وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ } فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] الثاني : وهو منقول أيضاً عن ابن عباس { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : { فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] . وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام . والقول الثالث : { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا { وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر ، وتقوية له ، وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة . القول الرابع : إن قوله { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السمٰوات مع الملائكة قال الله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلأَبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين . القول الخامس : إنه تعالى قال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 18 ] فجعل أولو العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك . والقول السادس : أن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : " " أن تعبد الله كأنك تراه " وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة ، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } . القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك . ثم قال تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : أصل المكر في اللغة ، السعي بالفساد في خفية ومداجاة ، قال الزجاج : يقال مكر الليل ، وأمكر إذا أظلم ، وقال الله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وقال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ يوسف : 102 ] وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } [ يونس : 71 ] فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور ، لا جرم سمي مكراً . المسألة الثانية : أما مكرهم بعيسى عليه السلام ، فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله تعالى بهم ، ففيه وجوه الأول : مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، وذلك أن يهودا ملك اليهود ، أراد قتل عيسى عليه السلام ، وكان جبريل عليه السلام ، لا يفارقه ساعة ، وهو معنى قوله { وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة ، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة ، وكان قد ألقى شبهه على غيره ، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق ، فرقة قالت : كان الله فينا فذهب ، وأخرى قالت : كان ابن الله ، والأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله ، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء ، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفي الجملة ، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه . الوجه الثاني : أن الحواريين كانوا إثنى عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ، ودل اليهود عليه ، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم ، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، فكان ذلك هو مكر الله بهم . الوجه الثالث : ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام ، فشمسوهم وعذبوهم ، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل ، فقال : لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ، ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام ، فأخبروه فتابعهم على دينهم ، وأنزل المصلوب فغيبه ، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ، وكان اسم هذا الملك طباريس ، وهو صار نصرانياً ، إلا أنه ما أظهر ذلك ، ثم إنه جاء بعده ملك آخر ، يقال له : مطليس ، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله . القول الرابع : أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم ، وهو قوله تعالى : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } [ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله تعالى بهم . القول الخامس : يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود ، والله أعلم . المسألة الثالثة : المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر ، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها : أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر ، كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة ، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني : أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث : أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات ، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير ، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم .