Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 139-148)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة ، وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص ، لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصير هذا سبباً لتصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه . أما قوله : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : قال صاحب « الكشاف » قريء يونس بضم النون وكسرها . المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولاً ، لأن قوله : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ } معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك ، ويمكن أن يقال : إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله ، ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله الله تعالى ، والحاصل أن قوله : { لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلاً من عند الله تعالى ، ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من قوله : { لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أنه من المرسلين عند الله تعالى . المسألة الثالثة : أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده ، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم : إنه أبق من الله تعالى ، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه ، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئاً ، فقيل : لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضباً لربه ، وهذا بعيد سواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر ، وقيل : إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه ، ولم يصبر عليهم . وهذا أيضاً بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذا العمل فلا يجوز أن يتركه ، والأقرب فيه وجهان الأول : أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة ، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم ، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله ، وهذا هو الأقرب لأنه إقدام على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمداً للمعصية ، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن ، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ } ما ذكرناه الوجه الثاني : أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة ، فذلك هو قوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ } وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى : { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] وقوله : { إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة ، ثم قال تعالى : { فَسَـٰهَمَ } المساهمة هي المقارعة ، يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا ، قال المبرد : وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } أي : المغلوبين يقال : أدحض الله حجته فدحضت أي : أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق ، يقال : دحضت رجل البعير إذا زلقت ، وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، وكان الله تعالى أوحى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم ، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً ، فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته ، قال يونس : الله أمرك بهذا قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك ، فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه ، فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها ، فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق ، فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر ، وقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع ، فمن خرج سهمه نغرقه ، فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس ، فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله ، ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم يونس ، فقال : يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمى بنفسه فابتلعته السمكة فأوحى الله تعالى إلى الحوت : " " لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلاً " " ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء ، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد ، ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزناً شديداً ، فقال : يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت ، فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم ! انطلق إليهم ، والله أعلم بحقيقة الواقعة . ثم قال تعالى : { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } يقال : التقمه والتهمه والكل بمعنى واحد ، وقوله تعالى : { وَهُوَ مُلِيمٌ } يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه ، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه . ثم قال تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وفي تفسير كونه من المسبحين قولان الأول : أن المراد منه ما حكى الله تعالى عنه في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] الثاني : أنه لولا أنه كان قبل أن التقمه الحوت من المسبحين يعني المصلين وكان في أكثر الأوقات مواظباً على ذكر الله وطاعته للبث في بطن ذلك الحوت ، وكان بطنه قبراً له إلى يوم البعث ، قال بعضهم : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى ، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } وإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً ، فلما أدركه الغرق قال : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل } [ يونس : 90 ] قال الله تعالى : { ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } [ يونس : 91 ] واختلفوا في أنه كم لبث في بطن الحوت ، ولفظ القرآن لا يدل عليه . قال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً وأخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه ، وعن مقاتل بن حيان ثلاثة أيام وعن عطاء سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوماً وقيل شهراً ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، فقال : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم ، فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل " " فذاك هو قوله : { فَنَبَذْنَـٰهُ بِٱلْعَرَاء } وفيه مباحث : الأول : العراء المكان الخالي قال أبو عبيدة إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه . الثاني : أنه تعالى قال : { فنبذناه بالعراء } فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه ، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت ، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى . ثم قال تعالى : { وَهُوَ سَقِيمٌ } قيل المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً كالطفل المولود كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش ، وقال مجاهد سقيم أي سليب . ثم قال تعالى : { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ } ظاهر اللفظ يدل على أن الحوت لما نبذه في العراء فالله تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين وذلك المعجز له ، قال المبرد والزجاج كل شجر لا يقوم على ساق وإنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين ، نحو الدباء والحنظل والبطيخ ، قال : الزجاج أحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض فلذلك قيل له اليقطين ، روى الفراء أنه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع ، فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين ، قال الواحدي رحمه الله والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما : أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله والآخر : أن اليقطين كان معروشاً ليحصل له ظل ، لأنه لو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به . ثم قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وفيه مباحث : الأول : يحتمل أن يكون المراد وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام ، فالمراد به التقديم والواو معناها الجمع ، ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد اللالتقام ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول ، ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانياً بشريعة فآمنوا بها . البحث الثاني : ظاهر قوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } يوجب الشك وذلك على الله تعالى محال ونظيره قوله تعالى : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } [ المرسلات : 6 ] وقوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [ طه : 113 ] وقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] وقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] وقوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [ النجم : 9 ] وأجابوا عنه من وجوه كثيرة والأصح منها وجه واحد وهو أن يكون المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى أنهم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة ، وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا . ثم قال تعالى : { فَـئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَـٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } والمعنى أن أولئك الأقوام لما آمنوا أزال الله الخوف عنهم وآمنهم من العذاب ومتعهم الله إلى حين ، أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلاً لكل واحد منهم .