Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 55-64)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين ، وصف بعده عقاب الطاغين ، ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد ، والترهيب عقيب الترغيب . واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول : مرجعهم ومآبهم ، فقال : { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ } [ ص : 55 ] وهذا في مقابلة قوله : { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لحُسْن مَـئَابٍ } [ ص : 49 ] فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين ، واختلفوا في المراد بالطاغين ، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار ، وقال الجبائي : إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك ، واحتج الأولون بوجوه الأول : أن قوله : { لَشَرَّ مَـئَابٍ } يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم ، وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : { أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّاً } وذلك لا يليق إلا بالكفار ، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث : أنه اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل ، والكامل في الطغيان هو الكافر ، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 ، 7 ] وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة ، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ، إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب ، أي شر مرجع ومصير ، ثم قال : { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله : { جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } ثم قال : { فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } وهو كقوله : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم . ثم قال تعالى : { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : فيه وجهان الأول : أنه على التقديم والتأخير ، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني : أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ، ثم يبتدىء فيقول : حميم وغساق . المسألة الثانية : الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول : أنه الذي يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها . وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني : قيل الحميم يحرق بحره ، والغساق يحرق ببرده ، وذكر الأزهري : أن الغاسق البارد ، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث : أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع : قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية . المسألة الثالثة : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف . قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة ، فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً ، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك . ثم قال تعالى : { وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوٰجٌ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ أبو عمر { وَأَخَّرَ } بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب ، وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر ، أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق ، أي من مثله في الشدة والفظاعة ، أزواج أي أجناس ، وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر ، وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله . قال صاحب « الكشاف » : وقرىء من شكله بالكسر وهي لغة ، وأما الغنج فبالكسر لا غير . واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم في الدنيا أولاً ، ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانياً أما الأول : فهو قوله : { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } ، وقيل إن قوله : { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم ، وقوله : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو ٱلنَّارِ } كلام الرؤساء ، وقوله : { هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال ، ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم ، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها ، والقحمة الشدة . وقوله تعالى : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } دعاء منهم على أتباعهم ، يقول الرجل لمن يدعو له مرحباً أي أتيت رحباً في البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء ، وقوله : { بِهِمُ } بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] قالوا أي الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به ، وعللوا ذلك بقولهم : { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } والضمير للعذاب أو لصليهم ، فإن قيل ما معنى تقديمهم العذاب لهم ؟ قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى : { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ * ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عمران : 181 ، 182 ] إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم ، والضمير في قوله : { قَدَّمْتُمُوهُ } كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله : { وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لشَرُّ مَـئَابٍ } وقوله : { فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } أي : بئس المستقر والمسكن جهنم ، ثم قالت الأتباع { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً } أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى : { رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَـئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } [ الأعراف : 38 ] وكذلك قوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ * رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ الأحزاب : 67 ، 68 ] فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً ، وإن كان زائداً عليه كان ظالماً وإنه لا يجوز . قلنا المراد منه قوله عليه السلام : " " ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " " والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال ، والثاني عذاب الإضلال ، والله أعلم . وهههنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله : { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ ٱلأَشْرَارِ } يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون : { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ ٱلأَشْرَارِ } يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار ، إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً ثم قالوا : { أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { مّنَ ٱلأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَـٰهُمْ } بوصل ألف { أَتَّخَذْنَـٰهُمْ } والباقون بفتحها على الاستفهام ، قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله : { مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً } ، ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخرياً ، لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله : { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى } [ المؤمنون : 110 ] فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه ؟ أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ ، ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ، أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله : { أَتَّخَذْنَـٰهُمْ } بأم في قوله : { أَمْ زَاغَتْ عنهُمْ } فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله : { أَمْ زَاغَتْ } على القراءة الأولى ؟ قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون هم أم زاغت عنهم الأبصار . المسألة الثانية : قرأ نافع { سِخْرِيّاً } بضم السين والباقون بكسرها ، وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير . المسألة الثالثة : اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا ، أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار . ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم { أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّاً } وأما القراءة على سبيل الاستفهام ، فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار ، أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار ، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن يتكلموا به ، ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو ، فقال : { تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } وقول الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } من باب الخصومة .