Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 49-52)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة ، وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ، ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة ، وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس ، زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده ، فإن كان مالاً قال إنما حصل بكسبـي ، وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني ، وهذا تناقض عظيم ، لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله ، وأسنده إلى كسب نفسه ، وهذا تناقض قبيح ، فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة ، فقال { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة ، لأن عند حصولها يجب الشكر ، وعند فواتها يجب الصبر ، ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة ، كما يقال فتنت الذهب بالنار ، إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته . ثم قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار . وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب . السؤال الأول : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ههنا ، وعطف مثلها في أول السورة بالواو ؟ والجواب : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ، ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده ، كان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني ، فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال ، وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب ههنا . فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال ، فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء . السؤال الثاني : ما معنى التخويل ؟ الجواب : التخويل هو التفضل ، يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق . السؤال الثالث : ما المراد من قوله : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } ؟ الجواب : يحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقاً لذلك ، ويحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقاً له ، ويحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضاً فيعالج نفسه ، فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج ، وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب . السؤال الرابع : النعمة مؤنثة ، والضمير في قوله : { أُوتِيتُهُ } عائد على النعمة ، فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث ، بل قال بعده : { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } فجعل الضمير مؤنثاً فما السبب فيه ؟ والجواب : أن التقدير حتى إذا خولناه شيئاً من النعمة ، فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر ، فلا جرم جاز الأمران . ثم قال تعالى : { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ } الضمير في { قالها } راجح إلى قوله : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } هم قارون وقومه حيث قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ] وقومه راضون به فكأنهم قالوها ، ويجوز أيضاً أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها . ثم قال تعالى : { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئاً بل أصابهم سيئات ما كسبوا ، ولما بين في أولئك المتقدمين فإنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال : { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة . ثم قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } يعني : أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ، ويقبض تارة أخرى ، وقوله : { وَيَقْدِرُ } أي ويقتر ويضيق ، والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد من سبب ، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله ، لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ، ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة ، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر ، قد ولد فيه أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ، ويولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات ، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة ، علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع ، ولما بطلت هذه الأقسام ، علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه ، وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى : { أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } . قال الشاعر :