Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 8-9)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد ، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله ، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر ، لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر ، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة . أما قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ } فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره ، وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره ، لأن الكلام يخرج على معهود ، تقدم . وأما قوله { ضُرٌّ } فيدخل فيه جميع المكاره سواه كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده ، لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد { ودعاَ رَبَّهُ } أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء ، فلذلك قال : { مُنِيباً إِلَيْهِ } أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ } أي أعطاه ، قال صاحب « الكشاف » : وفي حقيقته وجهان أحدهما : جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال ، إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة " " والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر ، وفي المعنى قالت العرب : @ إن الغنى طويل الذيل مياس @@ ثم قال تعالى : { نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه ، وما بمعنى من كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ الليل : 3 ] وقوله تعالى : { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء } [ النساء : 3 ] وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه ، ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع ، وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله . ثم قال تعالى : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره . المسألة الثانية : المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين ، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواه وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه . ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر ، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل . المسألة الثالثة : معنى قوله : { لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك ، فيزداد إثماً على إثمه ، واللام في قوله { لِيُضِلَّ } لام العاقبة كقوله : { فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } وليس المراد منه الأمر بل الزجر ، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا ، ثم يكون مصيره إلى النار . ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين ، ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله ، فقال : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وحمزة { آمن } مخففة الميم والباقون بالتشديد ، أما التخفيف ففيه وجهان الأول : أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من ، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك ، وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني : أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة ، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو . المسألة الثانية : القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " " أفضل الصلاة صلاة القنوت " " وهو القيام فيها . ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً . عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } وعن ابن عباس القنوت طاعة الله ، لقوله : { كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ } [ البقرة : 116 ] أي مطيعون ، وعن قتادة { آناء الليل } ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار ، ويؤكده وجوه الأول : أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني : أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع ، فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي ، وهو معرفة الله وخدمته الثالث : أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع : قوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المزمل : 6 ] وقوله : { سَـٰجِداً } حال ، وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر بعد خبر الواو للجميع بين الصفتين . واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة ، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم ، أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً ، وأما العلم فقوله : { هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية . الفائدة الثانية : أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه ، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات ، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان ، وقوله : { سَـٰجِداً وَقَائِماً } إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله : { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله : { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ } ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله : { وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله : { هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } . الفائدة الثالثة : أنه قال في مقام الخوف { يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ } فما أضاف الحذر إلى نفسه ، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه ، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى . المسألة الثالثة : قيل المراد من قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ } عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة ، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه . المسألة الرابعة : لا شبهة في أن في الكلام حذفاً ، والتقدير أمن هو قانت كغيره ، وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه ، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجداً وقياماً ، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون ، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون ، لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم ، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم . وأما قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : { وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] قال صاحب « الكشاف » أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون ، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء ، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم ، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة . ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب ، قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء ، فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه .