Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 131-134)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلاً من سعته ، وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعاً فقال { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } يعني من كان كذلك فإنه لا بدّ وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة . الثاني : أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّـن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد ، لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من الضعف والقصور ، بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم . ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل ، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين . المسألة الثانية : قوله { مِن قَبْلِكُمْ } فيه وجهان : الأول : أنه متعلق بوصينا ، يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب . والثاني : أنه متعلق بأوتوا ، يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك . وقوله { وَإِيَّـٰكُمْ } بالعطف على { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية ، والمراد اليهود والنصارى . المسألة الثالثة : قوله { أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } كقولك : أمرتك الخير ، قال الكسائي : يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا ، ويقال : ألم آمرك أن ائت زيداً ، وأن تأتي زيداً ، قال تعالى : { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] وقال { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ } [ النمل : 91 ] . ثم قال تعالى : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } قوله { وَإِن تَكْفُرُواْ } عطف على قوله { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } والمعنى : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض . وفيه وجهان : الأول : أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها ، فحق كل عاقل أن يكون منقاداً لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه ، والثاني : أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سمواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه ، وكان مع ذلك غنياً عن خلقهم وعن عبادتهم ، ومستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه . ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } فإن قيل : ما الفائدة في تكرير قوله { وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } قلنا : إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور : فأولها : أنه تعالى قال : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] والمراد منه كونه تعالى جواداً متفضلاً ، فذكر عقيبه قوله { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم ، وثانيها : قال { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } والمراد منه أنه تعالى منزّه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، فلا يزداد جلاله بالطاعات ، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات ، فذكر عقيبه قوله { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } والغرض منه تقرير كونه غنياً لذاته عن الكل ، وثالثها : قال : { وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد ، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية ، وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه ، فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادراً على جميع المقدورات ، وإذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات ، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني ، ثم يذكره ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى ، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال . وأيضاً فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذٍ لكون تخليق السموات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالب جليلة ، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله ، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده ، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال . وقوله { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع المقدورات ، فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل . ثم قال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون ، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة ، ولو كان عاقلاً لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع . فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل ؟ قلنا : تقرير الكلام : فعند الله ثواب الدينا والآخرة له إن أراده الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط . ثم قال : { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة ، وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال .