Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 25-25)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل : بين فيمن يحل أنه متى يحل ، وعلى أي وجه يحل فقال : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ الكسائي { ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } بكسر الصاد ، وكذلك { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } وكذلك { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } كلها بكسر الصاد ، والباقون بالفتح ، فالفتح معناه ذوات الأزواج ، والكسر معناه العفائف والحرائر ، والله أعلم . المسألة الثانية : الطول : الفضل ، ومنه التطول وهو التفضل ، وقال تعالى : { ذِى ٱلطَّوْلِ } [ غافر : 3 ] ويقال : تطاول لهذا الشيء أي تناوله ، كما يقال : يد فلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة ، كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان ، وسمي الغنى أيضاً طولا ، لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر ، كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر . إذا عرفت هذا فنقول : الطول القدرة ، وانتصابه على أنه مفعول « يستطع » و « أَن يَنكِحَ » في موضع النصب على أنه مفعول القدرة . فان قيل : الاستطاعة هي القدرة ، والطول أيضا هو القدرة ، فيصير تقدير الآية : ومن لم يقدر ، منكم على القدرة على نكاح المحصنات ، فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة ؟ قلنا : الأمر كما ذكرت ، والأولى أن يقال : المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات ، وعلى هذا الوجه يزول الاشكال ، فهذا ما يتعلق باللغة . أما ما قاله المفسرون فوجوه : الأول : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة . الثاني : أن يفسر النكاح بالوطء ، والمعنى : ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة ، وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فإنه يجوز له التزوج بالأمة . وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة ، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة . وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة ، فإن مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ، سواء قدر على التزوج بالحرة أو لم يقدر . والثالث : الاكتفاء بالحرة ، فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن ، كل هذه الوجوه إنما حصلت ، لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه . المسألة الثالثة : المراد بالمحصنات في قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } هو الحرائر ، ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء ، فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء ، والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد : أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الإماء ، فإن الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة ، والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات ، وأما على قراءة من قرأ بكسر الصاد ، فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن . المسألة الرابعة : مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة ، اثنان منها في الناكح ، والثالث في المنكوحة ، أما اللذان في الناكح . فأحدهما : أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق ، وهو معنى قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة . فان قيل : الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة ، فمن أين هذا التفاوت ؟ قلنا : كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات ، وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت . وأما الشرط الثاني : فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } [ النساء : 25 ] أي بلغ الشدة في العزوبة . وأما الشرط الثالث : المعتبر في المنكوحة ، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة ، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين : الرق والكفر ، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر ، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر ، فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة . وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول : إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ، أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك ، سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر ، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة ، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة ، وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج الى الجماع ، فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها ، وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة ، اذا ثبت هذا فنقول : الحكم اذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه ، فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، اذا ثبت هذا فنقول : لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة ، لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم ، فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة . الثاني : أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم ، وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، والدليل عليه أن القائل اذا قال : الميت اليهودي لا يبصر شيئا ، فإن كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول : إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا ، فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة ، علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد . قال أبو بكر الرازي : تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } [ الإسراء : 31 ] ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة ، وقوله : { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرّبَا أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة ، وقوله : { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرّبَا أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً } لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة ، فيقال له : ظاهر اللفظ يقتضي ذلك ، إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل ، كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب ، وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل ، والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه ، حيث قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء ، والتقدير : ومن لم يستطع منكم وطء الحرة ، وذلك عند من لا يكون تحته حرة ، فإنه يجوز له نكاح الأمة ، وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة . وجوابه : أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى ، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد ، لا في عدم القدرة على الوطء . واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات ، كقوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء } [ النساء : 3 ] وقوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ } وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } وقوله : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } [ المائدة : 5 ] وهو متناول للاماء الكتابيات . والمراد من هذا الإحصان العفة . والجواب : أن آيتنا خاصة ، والخاص مقدم على العام ، ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة ، وإنما خصت صونا للولد ، عن الارقاق ، وهو قائم في محل النزاع . المسألة الخامسة : ظاهر قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } يقتضي كون الإيمان معتبرا في الحرة ، فعلى هذا : لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فإنه يجوز له أن يتزوج الأمة ، وأكثر العلماء أن ذكر الإيمان في الحرائر ندب واستحباب ، لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها . المسألة السادسة : من الناس من قال : انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة ، واحتجوا بهذه الآيات ، فقالوا : إنه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة ، ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا ، لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة ، وذلك ينفي دلالة الآية . ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة . المسألة السابعة : الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء ، وأنه لا يجوز الإقدام عليه إلا عند الضرورة ، والسبب فيه وجوه : الأول : أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية ، فإذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا ، وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده . والثاني : أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة ، وربما تعودت الفجور ، وكل ذلك ضرر على الأزواج . الثالث : أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج ، فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة ، فربما احتاج الزوج إليها جدا ولا يجد إليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها . الرابع : أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر ، فعلى قول من يقول : بيع الأمة طلاقها ، تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى ، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها ، وذلك من أعظم المضار . الخامس : أن مهرها ملك لمولاها ، فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها ، ولا على إبرائه عنه ، بخلاف الحرة ، فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة ، والله أعلم . قوله تعالى : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } فيه مسائل : المسألة الأولى : قوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم } أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم . قال ابن عباس : يريد جارية أختك ، فِِإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه . المسألة الثانية : الفتيات : المملوكة جمع فتاة ، والعبد فتى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " " لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي " " ويقال للجارية الحديثة : فتاة ، وللغلام فتى ، والأمة تسمى فتاة ، عجوزاً كانت أو شابة ، لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير . المسألة الثالثة : قوله : { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية ، سواء كان الزوج حراً أو عبدا ، وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ، وقول مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز التزوج بالأمة الكتابية . حجة الشافعي رضي الله عنه : أن قوله : { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة ، وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة ، وأيضا قال تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] . حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه : النص والقياس : أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة ، وآكدها قوله : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة ، والكتابية المملوكة أيضا مباحة ، فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز . والجواب عن العمومات : أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات ، وعن القياس : أن الشافعي قال : إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد ، أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص : الرق والكفر ، فظهر الفرق . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ } قال الزجاج : معناه اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور ، والله يتولى السرائر والحقائق . ثم قال تعالى : { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } وفيه وجهان : الأول : كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الإماء عند الضرورة . والثاني : ان المعنى : كلكم مشتركون في الإيمان ، والإيمان أعظم الفضائل ، فإذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت إليه ، ونظيره قوله تعالى : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ } [ الحجرات : 13 ] قال الزجاج : فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات ، أو لأن الشرف بشرف الإسلام أولى منه بسائر الصفات ، وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه : إن الإيمان شرط لجواز نكاح الأمة . واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب ، فاعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر و يلتفت اليه . روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والفخر بالأحساب ، والاستسقاء بالانواء ، ولا يدعها الناس في الاسلام " " وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين ، فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية . ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل ، ويدل عليه القرآن والقياس . أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يقتضي كون الإذن شرطا في جواز النكاح ، وان لم يكن النكاح واجبا . وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : " " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " " فالسلم ليس بواجب ، ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط ، كذلك النكاح وان لم يكن واجبا ، لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة ، وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها . وأما القياس : فهو أن الأمة ملك للسيد ، وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها ، فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه . واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة ، وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إذا تزوج العبد بغير إذن السيد فهو عاهر " . " المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله عنه : المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يصح ، احتج الشافعي بهذه الآية ، وتقريره أن الضمير في قوله : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } عائد إلى الاماء ، والأمة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة ، ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه ، فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة ، باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } اشارة إلى الاماء ، فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن ، وحصول صفة الحرية لهن ، وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها ، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق . احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي في هذه المسألة فقال : مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح ، فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها ، بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها . قال : وهذه الآية تبطل ذلك ، لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها ، فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية . والجواب من وجوه : الأول : أن المراد بالإذن الرضا . وعندنا أن رضا المولى لا بد منه ، فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه ، وثانيها : أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن ، وذلك إما المولى أن كان رجلا ، أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة . وثالثها : هب أن الأهل عبارة عن المولى ، لكنه عام يتناول الذكور والإناث ، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام : " " العاهر هي التي تنكح نفسها " " فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها ، فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم . ثم قال تعالى : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : في تفسير الآية قولان : الأول : ان المراد من الأجور : المهور ، وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها ، سمي لها المهر أو لم يسم ، لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى ، وبين من لم يسم في إيجاب المهر ، ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى : { بِٱلْمَعْرُوفِ } وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى : { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] الثاني : قال القاضي : ان المراد من أجورهن النفقة عليهن ، قال هذا القائل : وهذا أولى من الأول ، لأن المهر مقدر ، ولا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة ، ثم قال القاضي : اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر ، وحملوا قوله : { بِٱلْمَعْرُوفِ } على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير . المسألة الثانية : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها ، وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية ، وهو قوله : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس ، أما النص فقوله تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْء } [ النحل : 75 ] وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا ، وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع ، وتلك المنافع مملوكة للسيد ، وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح ، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها . والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه : الأول : أنا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية . الثاني : أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور إليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله : { وَءاتُوهُنَّ } ما يوجب كون المهر ملكا لهن ، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال : " " العبد وما في يده لمولاه " " فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم . ثم قال تعالى : { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قال ابن عباس : محصنات أي عفائف ، وهو حال من قوله : { فَٱنكِحُوهُنَّ } باذن أهلهن ، فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء ، واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا ؟ وسنذكره في قوله : { ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله : { غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ } أي غير زوان { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } جمع خدن ، كالأتراب جمع ترب ، والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن . قال أكثر المفسرين : المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها ، والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا ، وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين ، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ، ونص على حرمتهما معاً ، ونظيره أيضاً قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] . المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا ، لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا ، وهذا ليس بشرط . وجوابه : أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات ، بل على قوله : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ولا شك أن كل ذلك واجب ، فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا ، عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم . ثم قال تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } . وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم { أُحْصِنَّ } بالفتح في الألف ، والباقون بضم الألف ، فمن فتح فمعناه : أسلمن ، هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي ، ومن ضم الألف فمعناه : أنهن أحصن بالازواج . هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد . ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال : انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله : { فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فاذا آمن ، فان حالهن كذا وكذا ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين : الأول : حال نكاح الاماء ، فاعتبر الايمان فيه بقوله : { مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } والثاني : حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة ، فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم ، وهو قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } . المسألة الثانية : في الآية إشكال قوي ، وهو أن المحصنات في قوله : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات ، أو المراد منه الحرائر الأبكار . والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن . والأول مشكل ، لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا : الرجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم ، ومعلوم أن ذلك باطل . والثاني : وهو أن يكون المراد : الحرائر الأبكار ، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن ، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين : الاحصان والزنا ، لأن قوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ } شرط بعد شرط ، فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا ، فهذا إشكال قوي في الآية . والجواب : أنا نختار القسم الثاني ، وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة ، بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج ، فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه ، فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى ، وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص ، لأن عند حصول ما يغلظ الحد ، لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق ، فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم . المسألة الثالثة : الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم ، واحتجوا بهذه الآية ، وهو أنه تعالى أوجب على الأَمَةِ نصف ما على الحُرَّة المُحْصَنَة ، فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم ، لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل ، فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد ، والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة ، وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] . المسألة الرابعة : اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر في غير الحد ، وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم . ثم قال تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال : فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم ، والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ } [ آل عمران : 118 ] ، أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد . وللمفسرين فيه قولان : أحدهما : أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة ، فهذا هو العنت . والثاني : أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة ، أما في حق النساء فقد تؤدي إلى اختناق الرحم ، وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر . وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن . ثم قال تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة ، ووجود العنت ، وكون الأمة مؤمنة : الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح . المسألة الثانية : مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل ، فإن كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل ، سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة ، فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم ، وإن قالوا : إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة ، فحينئذ يسقط هذا الاستدلال ، إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم . ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح ، يعني أنه وإن حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة ، والله أعلم .