Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 29-30)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن في كيفية النظم وجيهن : الأول : أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال . والثاني : قال القاضي : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات ، بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال : { يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة ، لما أن المقصود الأعظم من الأموال : الأكل ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } [ النساء : 10 ] . المسألة الثانية : ذكروا في تفسير الباطل وجهين : الأول : أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع ، كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق . وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة ، لأنه يصير تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع ، فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة . والثاني : ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الانسان بغير عوض ، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة ، لكن قال بعضهم : إنها منسوخة ، قالوا : لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا ، وشق ذلك على الخلق ، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور : { لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] الآية . وأيضا : ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه ، تحرم الصدقات والهبات ، ويمكن أن يقال : هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص ، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة . المسألة الثالثة : قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل ، وأكل مال نفسه بالباطل لأن قوله : { أَمْوٰلَكُمْ } يدخل فيه القسمان معا ، كقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل . أما أكل مال نفسه بالباطل . فهو إنفاقه في معاصي الله ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه . ثم قال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : { تِجَـٰرَةً } بالنصب ، والباقون بالرفع . أما من نصب فعلى « كان » الناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، وأما من رفع فعلى « كان » التامة ، والتقدير : إلا أن توجد وتحصل تجارة . وقال الواحدي : والاختيار الرفع ، لأن من نصب أضمر التجارة فقال : تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة ، والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا . المسألة الثانية : قوله : { إِلا } فيه وجهان : الأول : أنه استثناء منقطع ، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل ، فكان « إلا » ههنا بمعنى « بل » والمعنى : لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض . الثاني : ان من الناس من قال : الاستثناء متصل وأضمر شيئاً ، فقال التقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وإن تراضيتم كالربا وغيره ، إلا أن تكون تجارة عن تراض . واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة ، فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات ، فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة . فان قلنا : إن الاستثناء منقطع فلا إشكال ، فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد ، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها ، لا بالنفي ولا باثبات . وإن قلنا : الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل ، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص . المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمة الله عليه : النهي في المعاملات يدل على البطلان ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يدل عليه ، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه : الأول : أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى ، فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات ، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع ، فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى . وثانيها : أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود ، وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة . والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود ، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها ، قياسا على التصرفات الصحيحة ، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد ، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين . فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال ، وثالثها : أن قوله : لا تبيعوا الدرهم بدرهمين ، كقوله : لا تبيعوا الحر بالعبد ، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول ، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم ، والله أعلم . المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمة الله عليه ، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة ، وقال الشافعي رحمة الله عليه : ثابت ، احتج أبو حنيفة بالنصوص : أولها : هذه الآية ، فان قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي ، سواء حصل التفرق أو لم يحصل . وثانيها : قوله : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه . وثالثها : قوله عليه الصلاة والسلام : " " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه " " وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع ، فوجب أن يحصل الحل . ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : " " من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه " " جوز بيعه بعد القبض ، وخامسها : ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان ، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان ، ولم يشترط فيه الافتراق . وسادسها : قوله عليه الصلاة والسلام : " " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " " واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق ، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد . واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص ، لكنه يقول : أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه ، فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " " وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات ، والله أعلم . قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم بعضا وإنما قال : { أَنفُسَكُـمْ } لقوله عليه السلام : " " المؤمنون كنفس واحدة " " ولأن العرب يقولون : قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم . واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم ؟ فانكره بعضهم وقال : إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه ، لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه ، وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم ، وهو الألم الشديد والذم العظيم ، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم ، وهو استحقاق العذاب العظيم ، وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة ، وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند ، وذلك لا يتأتى من المؤمن ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر ، قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة ، وأيضا ففيه احتمال آخر ، كأنه قيل : لا تفعلوا ما تستحقون به القتل : من القتل والردة والزنا بعد الاحصان ، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة ، وقيل : إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما ، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة . ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } . واعلم أن فيه مسائل : المسألة الأولى : اختلفوا في أن قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } إلى ماذا يعود ؟ على وجوه : الأول : قال عطاء : إنه خاص في قتل النفس المحرمة ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات . الثاني : قال الزجاج : إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة . والثالث : قال ابن عباس : إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع . المسألة الثانية : إنما قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً } لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض ، وقد يكون ذلك حقا كالقود ، وفي جملة ما تقدم أخذ المال ، وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها ، فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد . المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة . قالوا : وقوله : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال : بتخليدهم ، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ، لأنه لا قائل بالفرق . والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع ، إلا أن الذي نقوله ههنا : ان هذا مختص بالكفار ، لأنه قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير ، فيحمل الظلم على ما اذا كان قصده التعدي على تكاليف الله ، ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال : أليس أنه وصفهم بالايمان فقال : { يا أيها الذين آمنوا } فكيف يمكن أن يقال : المراد بهم الكفار ؟ لأنا نقول : مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة ، فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا : أنهم كانوا مؤمنين ، ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان ، فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام . فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه ؟ والله أعلم . ثم أنه تعالى ختم الآية فقال : { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } . واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية ، وحينئذ يمتنع أن يقال : ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض ، بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] أو يكون معناه المبالغة في التهديد ، وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه .