Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 66-68)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق ، والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس ، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون ، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم ، فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة ، فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي : { أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ } بضم النون في « أن » وضم واو « أو » والسبب فيه نقل ضمة { ٱقْتُلُواْ } وضمة { أَخْرِجُواْ } اليهما ، وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين ، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو ، وقال الزجاج : ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية . وقال غيره : أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين ، وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير . واتفق الجمهور على الضم في واو الضمير نحو { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ } [ البقرة : 237 ] . المسألة الثانية : الكناية في قوله : { مَّا فَعَلُوهُ } عائدة إلى القتل والخروج معا ، وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه ، واختلف القراء في قوله : { إِلاَّ قَلِيلٌ } فقرأ ابن عامر { قَلِيلاً } بالنصب ، وكذا هو في مصاحف أهل الشام ومصحف أنس بن مالك ، والباقون بالرفع ، أما من نصب فقاس النفي على الاثبات ، فإن قولك : ما جاءني أحد كلام تام ، كما أن قولك : جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوباً في الإثبات فكذا مع النفي ، والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام ، وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في { فَعَلُوهُ } وكذلك كل مستثنى من منفي ، كقولك : ما أتاني أحد إلا زيد ، برفع زيد على البدل من أحد ، فيحمل إعراب ما بعد « إلا » على ما قبلها . وكذلك في النصب والجر ، كقولك : ما رأيت أحداً الا زيداً ، وما مررت بأحد إلا زيد . قال أبو علي الفارسي : الرفع أقيس ، فإن معنى ما أتى أحد إلا زيد ، وما أتاني الا زيد واحد ، فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم : ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته . المسألة الثالثة : الضمير في قوله : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان : الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد أنه عائد إلى المنافقين ، وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم ، فقال تعالى : ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم ، فاذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص ، وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال . الثاني : أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم ، وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق ، وأما الضمير في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } فهو مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا ، وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين ، روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا ، فقال اليهودي : إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك ، وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه ، فقال : يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك ، فنزلت هذه الآية . وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك ، فنزلت هذه الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " " والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " " وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك . المسألة الرابعة : قال أبو علي الجبائي : لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم ، فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى ، فيقال له : هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة ، لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها ، ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب ، ثم أنه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون ، وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم ، ومع ذلك فانه تعالى كلفهم ، فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لأَتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } . اعلم أن المراد من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به ، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فانه يسمى وعظا ، ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع . فالنوع الأول : قوله : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة ، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح ، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره ، لأن قولنا : « خير » يستعمل على الوجهين جميعا . النوع الثاني : قوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } وفيه وجوه : الأول : أن المراد أن هذا أقرب الى ثباتهم عليه واستمرارهم ، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها ، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه . الثاني : أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق ، والباطل زائل . الثالث : أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير ، فاذا حصله فانه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا ، فقوله : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } إشارة إلى الحالة الأولى ، وقوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } إشارة إلى الحالة الثانية . النوع الثالث : قوله تعالى : { وَإِذاً لاَتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً } . واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء ، بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم . قال صاحب « الكشاف » : و « إذاً » جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت . فقيل : هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيما ، كقوله : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] . وأقول : إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة ، كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر . أحدها : أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله : { ءاتَيْنَـٰهُ } وقوله : { مّن لَّدُنَّـا } والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية ، وثانيها : قوله : { مّن لَّدُنَّـا } وهذا التخصيص يدل على المبالغة ، كما في قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [ الكهف : 65 ] وثالثها : أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم ، والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة ، وكيف لا يكون عظيما ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . " النوع الرابع : قوله : { وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } وفيه قولان : أحدهما : أن الصراط المستقيم هو الدين الحق ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرٰطِ ٱللَّهِ } [ الشورى : 52 ، 53 ] والثاني : أنه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة ، وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر ، والدين الحق مقدم على الثواب والأجر ، والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج اليه بعد استحقاق الأجر ، فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى .